مقاربات في قصص صالح الغازي






 مقاربات في قصص صالح الغازي

1-(رقة أم قسوة ؟ /الباحث والكاتب حمد الرشيدي.) نشر في جريدة اليوم السعودية بتاريخ  2014/06/14.


2-(تكثيف لتفاصيل السرد وحضور للزمن والذاكرة /الكاتب عبد الحفيظ الشمري) نشر في صحيفة الجزيرة السعودية 8 مارس 2014


 3-(قصص تحنو على الحكاية الوارفة في بهاء بوحها / للكاتب عبد الحفيظ الشمري)نشرت في صحيفة الجزيرة السعودية  14-5-2009


(4) بين الحق في الفرحة والحياة وملامح الاغتراب الإنساني قراءة في المجموعة القصصية (تلبس الجينز) بقلم : د. وليد طلعت نشرت في صحيفة الجزيرة السعودية  05/08/2009


----------------




(1)

رقة أم قسوة ؟ قراءة في مجموعة«الرقة» مقال حمد الرشيدي نشر في جريدة اليوم السعودية


(الرقة) مجموعة قصصية للكاتب المصري صالح الغازي، صادرة حديثا عن (دار الكفاح) للنشر والتوزيع بالدمام للعام الحالي 1435هـ – 2014م.

تأتي هذه المجموعة بعنوانها (الرقيق)؛ ليعكس لنا التعامل المفترض والذي ينبغي أن يكون مع (المرأة) وأنوثتها وتكوينها الطبيعي والنفسي والعاطفي والسلوكي كنصف آخر مكمل للرجل، وخاصة في مجتمعنا الشرقي الذي يؤمن بأن (ثنائية الرجل والمرأة) أمر حتمي، لا تتم الحياة بدونه، ولا يكتمل بناء المجتمع ونموه وتطوره إلا به.

ومع أن تصميم غلاف المجموعة قد جاء مبالغاً فيه -إلى حد ما – بأناقة مفرطة في تفاصيلها، جمعت بين اللون والصورة والحرف بحرفنة تتناغم وتتناسب مع طبيعة المرأة كجنس بشري مرهف الحس، وخاصة تلك العبارة المستحثة للفضول والتي جعل منها الكاتب عنواناً ثانوياً لمجموعته، ألا وهي عبارة (للبنات فقط) كما جاء على الغلاف الخارجي، إلا أن مضمون المجموعة ومعالجة الكاتب وطرحه له من زوايا متعددة يعني لنا -كقراء- ما هو أبعد وأعمق من العناوين والمسميات والأغلفة وألوانها ومكوناتها، كأوليات سرعان ما نتجاوزها بأنظارنا -بداهة- لدى مطالعتنا أو تصفحنا لأي عمل أدبي، إذ إن مثل هذه (الإكسسوارات) وإن كان لها اعتبارها من نواح فنية معينة، إلا أنها -بالتالي- ليست أساساً في عملية الإبداع الأدبي، لكونه قائماً بالدرجة الأولى على اللغة المجردة، وما عداها من الفنون الأخرى ذات العلاقة فهي تدور في فلكه.

حقاً.. لقد فاجأ (الغازي) قارئه حين نقله مباشرة من العنوان (الرقيق) ذي الغلاف (الأنيق الرومانسي) لمجموعته هذه إلى حيث الخشونة والقسوة المحيطة بالمرأة العربية والشرقية بوجه عام، في مجتمع قامت ثقافته التربوية التقليدية على تجاهل كينونتها وإشعارها منذ نعومة أظفارها بأنها كائن بشري خلق ليكون هامشيا، ومحجوراً عليه وليعيش في إطار ضيق يومي، لا تتجاوز حدوده صالة المنزل، ومطبخه، والغسيل، والكنس والتنظيف، والحمل والإرضاع، ويجب أن تظل هكذا إضافة إلى وجوب تحملها للقيام بأعباء (عش الزوجية) حين تصبح زوجة، (وحيدة في البيت من ملل المسلسلات التلفزيونية إلى إعداد الطعام أو من الآلام بأعلى الرأس إلى الآلام بأسفل البطن .. ومن جلسات نساء العائلة والمقربات عن آخر زيجة وأحدث مطلقة وتقدير المهر والأثاث لكني أحلم بالغربال كنهاية حتمية وهدف لا يبرح خيالي كفاصل لاستعادة قدرتي على الاحتمال) ( ).

( في بداية زواجه وجهها لارتداء النقاب حتى حين زيارة أقاربها.. كادت تختنق في البدء لكنها تعودت.. ثم عمم ذلك على كل تصرفاتها فانعزلت وبيتها عن الحياة، وكان كل من يسألها أو يفتح معها حواراً تبين له أنها رغبته وموافقتها بعد اقتناع فكان حزنها أصدق من ابتسامتها، وتعرضت لموجات متلاحقة من الأرق والتفكير ثم الخوف من المستقبل) ( ).

(البنت الكبيرة فقط كانت تساعدها في أعمال البيت، والبنات الأخريات مدللات أعمارهن بين السابعة عشرة والسابعة والعشرين ولا شيء في حياتهن.. ) ( ).

فعلاً !! لقد أدمى (الغازي) قلوبنا – نحن كقراء – لمجموعته هذه حين قدمها إلينا بغلاف أنيق فائق الروعة، يعكس الطبيعة الأنثوية ورقتها ورومانسيتها، لينقلنا بعد ذلك مباشرة، وبطريقته الخاصة ككاتب وفنان على غرار (وراء الأكمة ما وراءها) إلى نقيضها تماماً من معاملة المرأة بخشونة وجلافة وقسوة وعنجهية لا مبرر لها دينياً وأخلاقيا وإنسانياً.

فأين (الرقة) إذن في هذه المجموعة القصصية؟ إنه مجرد ظلم واضطهاد وكبت وعنف موجه للمرأة وتحميلها فوق ما لا تستطيع!

ربما أن الكاتب هنا قد استخدم طريقة تسمية الأشياء بأضدادها، بما يتفق – أدبياً – مع نظرة الشاعر العربي القديم في بيته الشهير حين قال ذات مرة: (والضد يظهر حسنه الضد)!!


رقة أم قسوة ؟ قراءة في مجموعة«الرقة» للقاص صالح الغازي مقال حمد الرشيدي.


نشر في جريدة اليوم السعودية

بتاريخ

2014/06/14 –


http://www.alyaum.com/News/art/145336.html





(2)

تكثيف لتفاصيل السرد وحضور للزمن والذاكرة(مقاربة عبد الحفيظ الشمري) نشرالمقال في صحيفة الجزيرة السعودية



صالح الغازي في قصصه «الرقة للبنات فقط»:

القاص صالح الغازي في مجموعته القصصية الجديدة «الرقة للبنات فقط» يسعى إلى ترتيب أوراقه السردية، ليناوش العمل القصصي، متيقنا أن هذا الفن الجميل موعود بقراءات وتجليات أكبر، حيث لا يزال فن القصة شامخا ومتميزا وذا دلالات جمالية وخصوصية فنية مذهلة تعكس الكثير مما يمتلكه الكاتب من عطاء إبداعي إبداعي، لتظل القصة القصيرة شاهدا على تعلق القارئ بفنونها وتجلياتها الجمالية المذهلة.

فالغازي، ومن خلال هذا العمل القصصي الجديد يكثف تفاصيل السرد ليبرز من خلال القصة الأولى «للبنات فقط» حيز الزمن الذي يلتقط منه الذكريات التي تدور تفاصيلها في الغالب حول هموم الأنثى كمؤثر اجتماعي يلقى الحضور، ويحظى بمزيد من العناية والمتابعة حتى تصبح القصة هاجسا إنسانيا يتأصل في الوجدان، ولا بد للقارئ إلا وأن يخرج بأي شيء عن هذه الحكايات الحميمية.. تلك التي يتفنن الكاتب الغازي في اقتفاء تفاصيلها الدقيقة.

أبعاد الزمن المترامية، وفضاء الذكريات المتناثرة على مساحات السرد لا بد للقارئ أن يتعاطاها أو يلتقطها في القصة الثانية من المجموعة «الرقة».. فالقصة هنا ترتكز في معمارها على الزمن الذي يتفاعل ويزدهر في طاقة التمثل واستدراج الذاكرة بأن تبوح بما لديها من قصص ومواقف وأحداث ليست قاسية أو صعبة إنما هي إشارات حميمية وسهلة المراس.

نوع اللغة في هذه القصص للغازي تميل إلى الأسلوب الوصفي السهل، وتنهل من معين اللغة «المحكية» أو الدارجة رغبة من الكاتب في أن يؤصل لخطابه الإبداعي الموجه للمجتمع، حيث تتوالى صور اللغة راسمة حديث الذات، وتفاصيل الحالة الوجدانية دون تقعير في المعاني، أو استخدام للمصطلحات اللغوية إنما هي لغة تنفذ للفكرة وتصف الأحداث بأسلوب لغوي شيق وعفوي تحتاجه هذه النصوص التي انتقاها الكاتب للقارئ رغبة منه في أن يقدم ما يفيد بصورة متوازنة بلا شرح مستفيض أو إطناب أو إطالة.

ويستشعر القارئ لنصوص هذه المجموعة أن الكاتب عني بالفكرة الرئيسة للنص، ولم يشأ أن يتوسع في صياغة الأحداث والمشاهد إنما جعلها متوامضة والماحية تؤكد رغبته في تقديم نص قصصي واضح المعالم على نحو قصة «مسايرة الموجة» حينما دخل في القضية الأسرية أو العائلية وخرج منها بشكل مناسب، ليلتقط أهم المواقف وخيرة الأحداث بشكل خاطف.

شخوص هذا القصص أو أبطالها هم نوعية من المجتمع الذي يتفاعل مع الحياة، ويعي تفاصيل الحكاية، بل نراهم بأسماء ثابتة ومعروفة لا يمكن أن يكون جزء من خيال ما، إنما هي وجوه لها طابعها الخاص وتكوينها المناسب، حيث يستكشف الكاتب ومن خلال كل نص في هذه المجموعة أننا أما جملة من المواقف الشخصية التي يمكن لنا كقراء ومتابعين أن نتفاعل معها على نحو ما ورد في قصة «أزمة عائلية».

فالقصة هنا وتفاصيلها تدخلنا في صلب حكايتهم اليومية التي يمكن لنا من خلالها أن نصور واقع العلاقات الأسرية، والحياة الزوجية على نحو هذا المشهد الذي رسمه الكاتب بأسلوب مميز، لنرى هذا الجسر الذي تسير عليه السيارات محملة بالبشر وكأنه بات هو الطريق المعنوي الذي يجب أن نتعلم السير فيه وهو بالمناسبة إسقاط دلالي مناسب.

وحينما نتأمل الشخوص وأبطال هذه القصص والمواقف نلفي أن القاسم المشترك هو المرأة التي عُنيت القصص فيها، فكانت المشاهد أنثوية، والأحداث متواترة عن منقولات نسائية، بل أن لكل قصة عالمها الأنثوي، وبنائها الشخصي وتفاصيلها الخاصة، فالأحداث والمشاهد تتوالى بأسلوب يميل إلى تفعيل رؤية الأنثى، ويؤسس للفكرة العنوان الرئيس لهذا العمل القصصي والموسوم بإطار أنثوي «الرقة للبنات فقط» حيث تشكل جل نصوصه على هذا المضمون.

وتعد هذه المجموعة من قبيل النصوص الاجتماعية المباشرة.. تلك التي تعنى بتفاصيل الحياة اليومية التي تتحول وتتبدل إلا أنه رغم تكرارها وتواتر حضورها تظل مؤثرة وطريفة، لأن القاص صالح الغازي قد تميز بالتقاط المفيد والمعبر وما يمكن أن يحقق للقارئ معادلة المتعة والفائدة .. وهذا ما سعى إليه في هذه المجموعة.

** ** **


إشارة:

الرقة للبنات فقط (قصص قصيرة)

صالح الغازي

الطبعة الأولى صدرت عن دار ميريت بالقاهرة

الطبعة الثانية صدرت عن دار الكفاح ـ الدمام ـ 1435هـ 2014م

تقع المجموعة في نحو (82صفحة) من القطع المتوسط


نشرالمقال في صحيفة الجزيرة السعودية

بتاريخ


08/03/2014

على الرابط


http://www.al-jazirah.com/culture/2014/08032014/afooq49.htm


(3)


 

صالح الغازي في مجموعته تلبس الجينز:

قصص تحنو على الحكاية الوارفة في بهاء بوحها

عبدالحفيظ الشمري

 

يستفيض القاص صالح الغازي في سردياته المنتقاة بعناية الوصف، وشغف البوح اللامع بغية تتويج الصورة الواردة في مخيلة السارد، لتتساوق الفكرة وراء الفكرة، إنضاجاً للخطاب، وإفصاحاً عما يعتلج بالذات من توارد تلك الحكايات الكاملة وغير المنقوصة.


فالغازي يسم مجموعته بعنوان (تلبس الجنز) في إيماءة إشارية مقتضبة لنوع الخطاب الأنثوي الذي يعني فيه كثيراً، لرغبة ما في تحقيق معادلة إنسانية تكشف عمق الأشياء، وتناجز الحالة توقها للخلاص من منغصات كثيرة.


القصة الأولى في المجموعة (خارج البيت لا يوجد أحد) تحنو كثيراً على الوارف من ظلال البهاء الذي تعكسه مشهدية وردية برع القاص في صنعها على هيئة وصف آخر لمتعلقات سيدة يعشقها البهاء، وتذيع مفاتن سترها للراوي الماهر في عكس صورت الماء على خدها الصقيل.


تتواتر القصص في مجموعة (تلبس الجنز) على هذا الاستحواذ المكاني المنتقى بعناية حيث تظهر سيماء السرد في القصة الثانية بملامح امرأة تقف في مطبخها، حيث تعيد - كالمعتاد - رسم مباهجها القليلة، وأحلامها الكثيرة في رجل هده العناء، فيما القصة التي تليها تتكون على هيئة شجار اسري حول فتاة يافعة هدمت بأحلامها بيت أسرة عمره هاجس عرض طافح بالنزق.


الزمان في قصص صالح الغازي بشكل عام يأتي على هيئة ضرب من سيرة امرأة عني الرجل في تفاصيلها، فقد تكون خاطفة على هيئة مصافحة عابرة، أو لفترة تحددها تداعيات الوجدان الضاج بالحياة، والبحث عن ألق السعادة.


القصص ذات طابع أنثوي يسكن خلجات الراوي، فلا يجد بدا من أن يصور أكبر قدر ممكن من المواقف، ليعكس مدى شفافية الصورة وأثرها على القارئ، فمن العنوان ابتداء إلى القصص الواردة في المجموعة، واحدة تلوى الأخرى يخرج القاص (الغازي) مكنونه السردي بشكل مدهش وجميل يفضي غالباً إلى حكاية أرحب في الذات.


يظهر للقارئ أن القاص عني كثيراً بلغة قصصه، فلم يشأ أن يستدرج أي وسيلة للسرد إنما أبقاها بشكل منظم وهادئ، يعكس وفق هذا التصور قدرته على البوح بما يريد، فهو الراوي الخارجي لكل قصة، إذ لم يعمد إلى أي حوار جانبي إنما وضع المشاهد على نحو ما يريد، دون أن يجعل للشخوص حضور قد يشق بإطالته المحتملة على المتلقي، فمن هنا تأتي أهمية الاقتضاب لديه قدر الإمكان لكي لا تتسع خصوصية السرد وتأتي بنتائج قرائية عكسية قد لا تكون محببة في السرد.


الأفكار التي استخدمها القاص مبتكرة، ولها وجودها الإنساني، فقد عني كثيرا بتصوير الحالة الأسرية بغية أن يوظف المشروع الإنساني الأزلي لا سيما صراع الرجل مع المرأة، أو ما له صلة في هذا الباب، حيث عني في رسم تفاصيل المشاهد من خلال استخدامها كلغة استنطاقية لما قد تؤول فيه الصور فيراد من وراء هذه الموقف تسجيل رؤية آنية جديدة لحكاية ضاربة في القدم.


صالح الغازي يؤسس للحكاية الاجتماعية قناة خاصة، تتجسد خصوصيتها في فعل ما يمكن فعله من أجل أن تسترد المرأة وجودها في المشهد الاجتماعي، فيكون القاص شغوفاً في مد حبال المفاجأة المدلاة في بئر المرأة العميق، لكي يستخرج لنا من أعماق طواياها ما تنز فيه من صور، وحكايات، ومواقف عمل على تسجيلها في هذه الإضمامة القصصية المتناغمة في تراسلها للذائقة.


تتمتع القصص بنفس سردي قصير يؤصل لفكرة القصة الحديثة، حيث يبرع الكاتب الغازي في أن يستدرج أكبر وأعمق حكاية إنسانية إلى حيز صغير ومحدد من السرد من أجل أن يحقق شرطية القصة الحديثة.. تلك التي لا تقبل الاستفاضة، أو الترامي في عرض الصور والأحداث.


* * *


إشارة:


تلبس الجنز (قصص قصيرة)


صالح الغازي


دار الكفاح للنشر والتوزيع الدمام 1430هـ


اللوحات المصاحبة للقصص للفنانة رحاب إبراهيم


تقع المجموعة في نحو (84صفحة) من القطع المتوسط





(4)

بين الحق في الفرحة والحياة وملامح الاغتراب الإنساني

قراءة في المجموعة القصصية (تلبس الجينز) لصالح الغازي نشرت في صحيفة الجزيرة 05/08/2009

بقلم: د. وليد طلعت


صدر عن دار الكفاح للطباعة والنشر المجموعة القصصية الأولى للشاعر صالح الغازي بعنوان تلبس الجينز وذلك بعد صدور ديوانيه الشعريين الروح الطيبة ونازل طالع زي عصاية كمنجة.

جاءت المجموعة في 17 قصة قصيرة تنوع فيها الأداء السردي واختلطت فيها لغة الشعر بالنثر اختلاطا مثريا، كما تنوعت القصص في الطول وإن غلب عليها القصر لتصل إلى أقاصيص شديدة التكثيف في بعض الأحيان كما في (المنعنع وصل) و(من يزرع الأشجار).

يعمد الكاتب بلغة سلسة إلى تعرية ذوات شخوصه والقبض على حالات اغترابهم ففي (خارج البيت لا يوجد أحد) نلمح الحميمية المشتهاة في مواجهة الاغتراب الخانق، تتوحد البطلة مع الطبيعة، مع الأشجار والشارع (هل يدري أحد أن خارج البيت لا يوجد بشر.. سيارات متكئة على الرصيف وقطط وحجارة.. لا يوجد إلا الشجر مالكا للشارع) (تشعر أن الأشجار استحالت إلى راقصات باليه)، تختلط نبضاتها بدقات ساعة الحائط بينما تملأ فراغها بانتظار لا يعرف أحد متى سينتهي.. لتنتهي القصة بعد أن أجابت على سؤال بدايتها الشائك.. (هل يفكر - البلهاء - في المرأة أنها جسم فقط؟) لتعلن لنا (أن القلوب المرهفة لابد أن تواصل) وأن (غدا أو بعد غد قد تنتهي، لكن تذكر جيدا أنه لن يبكيك إلا من رطبت قلبه) إذن فالحياة الندية مفعمة بالشوق والانتظار بطراوة اللقاء وبالتسليم لمن نحب، لنغلب غربتنا لابد وأن (افتح النوافذ واستقبل العطر، اترك رذاذ الفجر يحنو علي خضارك) يستمر هذا الاغتراب في نص (كانت تلبس الجينز) لكنه هذه المرة هو اغتراب الذات ليس فقط عن الآخرين ولكن عن نفسها أولا فبعد الأماني وتصبير النفس بتحسن الأحوال والتغير للأفضل تنهزم الذات وتتشوه متحولة في النهاية إلى مجرد إطار ميت (باب الشقة مغلق عليها كبرواز وشريط حريري أسود رفيع يزين أسفل ركنه الأيسر)؟ إنه الموت إذن وإن كان موتا معنويا ذلك الذي يلحق بالذات بعد أن (ما حدث أنها هي التي تغيرت فبدلا من لبسها للجينز والبلوزات الضيقة... صارت ترتدي جلابيب واسعة مرسوما عليها ورد باهت كبير....

ومن الموت المعنوي إلى الموت الفعلي تنتهي بطلة قصة (وكانت تصبغ شعرها بالأصفر) حيث يستدل الناس على موت البطلة بعد ثلاثة أيام من وفاتها حين شم الجيران رائحة العفن.. القصة تقدم حكاية أم مسكينة تحاول تجديد شعورها بالشباب بمجرد تجديد صورتها الخارجية بالثياب وصبغ الشعر بالأصفر بينما هي تفقد ذاتها ويتسرب منها مع العمر الزوج الذي لا يستطيع المواصلة مع سطحية الحياة وطريقة العيش، هي تختار العطاء وتحاول المنح وتصليح الأوضاع من أجل سعادة البن الذي يلتقط زوجته (أو تلتقطه هي) عبر البلوتوث بالمول التجاري، ليرصد لنا الكاتب كيف تسطحت حياتنا مع غلبة ثقافة التيك أواي والاستهلاك والمظهرية الكذابة، فيستحيل ولدها ديك الرومي المدلل العاطل بلا عمل والذي انتقى عروسه (هدية بلوتوثه) بعد ليلة ممتعة قضاها معها، هذا الابن الذي زوجته في بيتها رغم معارضة الأب وخسارتها له يصرخ فيها في النهاية بعد أن مل دمية البلوتوث الجميلة، ولا ينتهي الأمر عند هذا الحد بل تقتلها عروس الحلوى التي استضافتها في بيتها زوجة لابنها بالصراخ (كل هذا منك أنت يا حيزبون..... لن أجلس معك في بيت واحد.. لو يريدني يجهز لي بيتا وحدي.. ويجد له عملا هذا العاطل).

وفي (مثل سيدة عادية) تتصاعد وتيرة الاغتراب والوحشة وسط الناس - الزملاء في العمل الجديد التي انعزلت عنهم لأنها رأتهم يقدسون النميمة - وهي امرأة تمني نفسها بالطفل الحلم وتتفجر سعادة بينما تنتظره (إنه فقدان الاتزان الذي يحسه المرء عند مفاجأة السعادة) تستسلم للتغير ولا تستطيع مقاومة الخلطة بالناس لتحكي لهم وتسمع منهم عن الحمل وأوجاعه وملابس الطفل وغير ذلك لكنها وبعد شهر واحد هو نصيب الولود من الحياة يتركها لتعود حياتها أسوأ وحين تعود لروتين الحياة والعمل، حين تعود إلى الناس (اشتمت نفس الرائحة العفنة، صوبت نحوها العيون الحادة وانهالت الأسئلة من نوع.. كيف حال المولود..؟ لماذا لم تحضريه معك...) فيا له من جحيم.

تصوروا إذن معي هذا الرجل البسيط في (سترك يا رب)، العامل الذي يغلف المشتريات حين يشرد ويشخبط بقلمه على الورق أمامه كما اتفق.. اسمه عنوان المحل رقم هاتفه يرسم الحروف مضيعا الوقت لينتهي (فرقع لوز) كما يسمونه في القصة وسط سخرية واستهزاء وتخويف زملائه، لماذا.. لقد لف في الورق التي كتب عليها اسمه ورقم هاتفه بضاعة حريمي.. ملابس نسائية ومن اشترتها؟.. زوجة المعلم أكبر تاجر سمك، فبدلا من أن يحايلها فرقع لوز ليحصل على الإكرامية تنتفض أوصاله ويرتعش كلما دخل أحدهم المحل. فهل نضحك؟ أم نبكي..؟

ولنتابع لعبة التواصل البشري المفقود نقرأ معا (لو فتحت باب شقتها) لنرى الجار الذي يفر من جارته الوحشية التي استيقظ وأهله على سبابها لزوجها ونصبت له كمينا مع أمها وانهالتا عليه بالأحذية ورفعتا عليه السكين ليعود بالشرطة تمكنه من الدخول ويصر على الذهاب لقسم الشرطة وهي بقميص النوم.. هذا الجار يخرج لشراء حاجيات بيته متهربا كمن ارتكب جرما خشية أن تفتح الباب..... وتطلب منه شيئا لغياب البواب (هل ستتركني لحالي... قد تهينني.... ركبتاي كادتا تخوناني.. رمحت كحصان في سباق ولم أشعر بنفسي إلا وأنا أغادر..).

أما (كوكو التي اصطادت شوشو) فهي نموذج آخر من نماذج النساء العصريات اللائي يجدن إغواء الرجال ويتقن في إبداع تافه مستخدمة كل الأسلحة العصرية من العطور الجذابة إلى الصوت الرخيم والتمثيل المتفاعل مع الأحداث بمهارة أنثى جائعة لتسود عيشة شكري ?شوشو- مع زوجته وتطلق عليه أسلحة جسدها مسيطرة عليه وغيره بجاذبيتها الهستيرية العصرية المصطنعة.

(اكتفي بهذا القدر).. ترصد لنا ظروف الشباب الصعبة وسطوة الشركات الكبرى وتحكمها في مصائر الشباب البسطاء الذين يتركون مدنهم وقراهم سعيا وراء لقمة العيش وأملا في تأمين ظروف العيش البسيطة، تتقشف الشركات لتحافظ على الأرباح والمكاسب وتدهس في طريقها أحلامهم بالبيت والاستقرار.

كما يدهس الزملاء أحلا م أبو عطيات ?مجرد الفرصة للفرجة على المباراة -، الإذن لنصف يوم هو حلم بسيط لرجل بسيط ينتهي بالغضب العارم (إيه.. فاكريني ايه ؟ محتاجين إيه؟ أخدمكم وانتوا ما بتقدروش.. ما بتحسوش...... أنا بني آدم زي أي حد فيكم... كلكم ما بتفهموش..).

تنساب الحالات الإنسانية محملة بالحلم والوجع بالشهوة للتحقق وبالفشل المروع بالغربة والفقد بالأمل الحذر والفرح المأمول والاصطدام بالأشجار التي تنتهي بها الطرق.. يتساءل الكاتب في نهاية قصته (من يزرع الأشجار..؟) كأنه ولتراكم سوء الحظ يشك في يد خفية تتتبعه وتغرس شجرة ينتهي بها كل طريق أمل يسلكه فيقول (هل ستنتهي الأشجار فتصل بطريق إلى مكان ما.. أم أنك ستدرك أن الطريق ذاته ليس هو الهدف.. يالها من أحلام قاسية..

فهل نستسلم أم نخضع ل (نزوات الكبار) الذين باعوا كل شيء في المزاد العظيم.. باعوا مفاتيح الحكمة والثروة والحضارة، لتعلق على الجدران الفخمة بجوار سيوف الفرسان.. أم نحاول الحياة، نصنع عالمنا الخاص الذي نتخذه درعا في مواجهة الجميع.. كالمنعنع، ذلك الذي فشل في إحداث تغييرات كبرى بحياته، فقام بتغيير صغير يسعد ويفرح به.

هذه قراءة بسيطة لبعض قصص هذه المجموعة الثرية، قراءة متوجعة لوجود يغلب عليه الاغتراب ولم يفقد بعد رغم كل شيء حقه في الحياة والفرحة، حتى تلك التي لا تكتمل.

https://www.al-jazirah.com/2009/20090805/cu6.htm



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بروفايل صالح الغازي Saleh Elghazy

غربلة| صالح الغازي يكتب: اقرأ يا شيخ قفاعة

مقال فى رواية ( بار أم الخير) للروائي محمد داود

بروفايل صالح الغازي

بروفايل صالح الغازي

أم الطرمان تعرف لغة عيالها

فريد ابو سعدة "مصوراتي لا يكف عن الكلام"

أنتمي لإبداعي ..شهادة الشاعر صالح الغازي في الكتابة والشعر

ريم المحمودي في لقاء عن أحدث ابداعاتها (بعض مني)

الفنانة المصرية دنيا مسعود