مقال فى رواية ( بار أم الخير) للروائي محمد داود
تراوحت رواية بار أم الخيربين دقة التعبير وعمق السخرية وهى الرواية الثالثة المكتوبة كاملة بالعامية بعد رواية قنطرة الذي كفر لمصطفى مشرفة ورواية حلاوة الروح لصفاء عبد المنعم، كشف الكاتب فيها الواقع بمنتهى البساطة وبدون مباشرة وجاء تصديره للرواية بكلمات الكاتب بهاء جاهين (اعمل نفسك عبيط ده منتهى الحكمة) مشاغبا ومراوغا للقارئ.
تمهل داود في فتح كنز العامية المصرية فلم يتعامل معها كلهجة فقط ولم يكتف بقدرتها السهلة على نقل الحياة اليومية أو الإحالة للجو الشعبي أو الوصول لطبقات متدنية في المجتمع. انما اشتبك معها كتراث ومكون درامي ينسج بها شخوص وأحداث ومواقف روايته محملة بدلالات تعبر عن أحوالهم وعللهم منها :
1- تحوير الكلام والأمثال والأغنيات المشهورة فالكاتب لم يكتفى بمجرد نقل المثل أو الأغنية لتدعم الحوار كما أفرد لها مساحة كبيرة من السرد ويذل المجهود الأعمق في تحوير المثل أو الأغنية ضمن سياق الدراما مثلا:-
(والزعل بيحروَق جوفي زي ما يكون واكل ملوحة. روح كمان طلعت، نط عزرائين لطشها وطيران ع السما، من غير إحم ولا حنطور)(العقد شنيعة المتعاقدين) (الكره سلطان ما يغلبوش الجان) (وكلمة السر "الظربيح ظربيح، والبطيخ بطيخ") (وليه شجرة المكرونة اللي جنب عربية النابت مش بتطرح فول؟!) (انا بخاف من ابويا وامي وبلدي وقرايبي والمجتمع والناس)(يادي البار اللي انت شارب فيه،.. يا بُؤي)(مش كل وحوحة وجع في القلب)(اللي ما يشوفش م الغربال يبقى متولي).
2- ابتكار تراكيب وخيال أتاح له الانتقال من المعقول الى اللامعقول والعكس في سياق استيعابه لقماشة العامية مثل:-(مش فاكر كنا في الدور السابع واللا اكتر؛ أصلي كنت لسه ف ثانوي، سُفَيِّف وخُف الريشة. وانا واقف لسه هنط م الشباك خش علينا جوز ام حسن، رفيَّع، هفتان، وبيتسند على حظي الدكر اللي بيشاور ناحيتي، ويوِزه يكبس عليا، ما كانش فيه وقت اتف على حظي، نطيت، وطلعت جري عريان، والناس بتشاور عليا وتقول: الجدع دا ماله بيجري أوي كده ليه؟!)(عملت نفسي سامع أغنية بحب اتنين سوا، وفقعت بالصمت كذا موَّال ولعوا البار)(عشان فرق التوقيت، الواحد بيقص ويلزق في الزمن جوه نفسه، فيه ناس تملي بعيد عني، وناس مهما حصل يفضلوا طازة في النفسية)وهنا تتدخل سوسة ضرس العقل في الحوار(قول انت إيه مزعلك، وانا سوسة ضرس عقلي سدادة.
_ عايز اروح لسيدنا الشيخ البلخي، ومش عارف سكته.
السوسة قالت: سيب متولي يطلع م الفيسبوك ويقعد في جيبك، وانا ادلك.
قلت ف نفسي خلينا ورا السوسة لحد باب سيدنا، وشرطت اشوف مولانا الأول، دقيقة وجاني عنوانه. منين يا سوسة؟ قالت: دا شغلي؛ أُمال سوسة ازاي؟!)
ومثل (وافتكرت حظي الدكر وهو بياكل نابت من عندها ويغمز لي)
3- اسماء ابطال الرواية أقرب للنحت اللغوي احيانا يدل علي مكنونات الشخصية أو صفتها (منخوري ،ذات اللغدين الرقاصة، ذات الهانشين، أبو السوس،الهتما،زمبعه، أوزي، حنجل وبيسو...الخ)
4- تصرفه للهجة عزرائيل بنفس تصور الآخر/ الأجنبي في المفهوم الشعبي
(عزرائين سابني وهو بيلعَّب حواجبه ويقول: هوا دي الباب، خُس، سوفتو الأرواخ بتاع الإنت بالخير خبيبي)(يااللهوي بتاع الأنا، ألطمتو، يسق هدوم يقولتو كفرتو، اسربتو مية خنفية انتخرتو)
أبدع داود في روايته عالماً موازياَ قد نشعر أنه غرائبياً أو كابوسياً من شدة حبكته لهذا الخيط الدرامي القوي الذي يربطه بالواقعية سواء من معاناة ابطال الرواية أو من اصرارهم على حفر مصائرهم ليكونوا رموزا شعبية في خصوصيتها ترمي لهموم انسانية ، تشبه لوحات عبد الهادي الجزار أو ايفلين عشم الله أو مجدي سرحان.
يرصد داود بمنتهى الحدة حالات تيبس الروح من خلال حكاية يرويها بطله (أبو الأرواح)-أحد دبالير الكاتب- والذى وظفه ليبوح بالمآسي والزيف الذى يلقاه في حياته اليومية أو عند تحقيق أشياء بسيطة ويكشف مواقف وشخصيات ومؤسسات وأفكار مشوهة المقاصد والنوايا لنجد (أبو الأرواح)يتعاقد مع عزرائيل على توريد أرواحه التي وجدها تخرج باستمرار والتي جسدها في ( حبات اللوبيا الطرية اللامعة) لاجئا الى الشيخ البلخي صاحب العهد ،باحثا عن حبيبته المجهولة ( البطيخة اللي من ابو بذر عريض بتاع زمان)...الى آخر الاحداث التي تضعنا أمام ما يشبه الملحمة.
ويتعمق داود في آثار مشكلات اجتماعية مؤثرة مثل:-
1- تأثير الفيس بوك : سيدة الفيس بوك اللي عامله مزه والتريقة على الفيسبوكيين وتأثيرهم مثلا: (عايزاك تحبني زي ما بتقول سنية وحوح في الفيسبوك)
2-مشكلة الصحة والأطباء (لفوا بيا ع الدكاتره، والمشايخ، والاقسام، وبتوع النابوليا؛ عشان يربطوا صواميل مخي.) و (النهاية، فيه دكتور جلدية، ما تعرف ولاد حلال واللا حرام دلونا عليه، عمل لي عملية، شال لي المخ، وانا دلوقت ماشي بالمخيخ، وأتاري الدكتور ده بتاع بليلة)
3-حلم السفر للخليج (مفيش سبع شهور، نهد وجوزها اتطلقوا؛ واكمنها نفسها من زمان سوس سعودي، وقعت على واحد تاني زيها، إتجوزته وجري ع الصعودية)
5- التريقة على الأدباء والشعراء خاصة ("مطلوب شاعر بربابة ماركة حشروجي، من حفظة الأغاني،... يقدر يأيِّف أي أغنية على مقاس ست الكل ام الخير. المخابرة طرف البارمان الفاضل ابو الخير".)
6- المشاكل الزوجية (يعني لو كل الأرواح اللي عندك دي طلعت دلوقت، تقدر تجيب لي خلاّط بالكبَّة؟!.)
7- التلوث (ناس كتير زي المية والهوا؛ ملوثين، وما نستغناش عنهم)
8- مشكل الوطن بشكل عام (ما شربتش مشاريبها؟، ما أكلتش مزِّتها؟ جربتش جرادلها؟ رجَّعتش فيها؟ هيَّصت وهنكرت وهلِّست ف بلاويها؟!) وغير ذلك...
وكما عمد داود على تفكيك المشكلات نجده ايضا قصد تفكيك الثوابت التى نتداولها في حياتنا اليومية فمثلا استعان في مساحات كبيرة من السخرية بهذا الاعتقاد المجاني بجلال الرقم 7 مثلا: (تسافر السعودية تجيب لي شبكة 7 تمتار دهب، وتعمل لي فرح بطُرطَة 70 دور، بابا ممكن يجيب لك عقد عمل 700 سنة) (ولقيته مطلع الجزء 77 من فهارس المجلد السابع م الموسوعة اللي بيألفها )(اتهيألي اني من ابو سبع ترواح)(لسه المطبعة باعتة لي الجزء اللي قبل 17 من المجلد السابع).
وبالرغم من أنها أول رواية له بالعامية المصرية لكنه قدم طرحاً واعياً لطريقة رسم العامية ، وذلك ليس غريباً على داود حيث أنه أطلعني منذ ما يزيد عن خمسة عشر عاما على ديوانه المخطوط بالعامية المصرية وكان في تقديري تحفة فنية لكنه لم ينشره.
الروائي محمد داود قدم خمس روايات في كل رواية فكرة مختلفة فهو ليس من النوع الذي تلح عليه فكره واحده ويكتب تنويعات عليها كذلك يقدم في كل رواية رؤية لغوية وأسلوبية مختلفة ،فقرأت له عن القرية المصرية وعن المدينة البائسة وبأسلوب شديد الواقعية وأسلوب فانتازي لكن هذه المرة قدم تغييرا كبيرا دفعة واحدة فقد ضرب في كل اتجاه بتلقائية وشطارة حتى أنه خرج عن الزمن المعتاد والمكان المعقول فمثلا المسافة من رمسيس الى الشون (سبع سنين ببلاويهم على ما وصلنا سبعة الفجر). بلا شك يحسب للروائي محمد داود جديته في الحفر الأعمق المزدوج في العامية والرواية.
صالح الغازي
المقال نشر في مجلة الثقافة الجديدة عدد317 فبراير 2017
مقال صالح الغازي
عن رواية بار أم الخير
للروائي محمد داود
الكتاب صدر عن دار ميريت.
تحية للروائي الجميل.
مقال صالح الغازي
عن رواية بار أم الخير
للروائي محمد داود
الكتاب صدر عن دار ميريت.
تحية للروائي الجميل.
تعليقات
إرسال تعليق