مع مين ضد مين قراءة في " الروح الطيبة " كتبها ا. حاتم مرعي
منذ صدور الديوان الأول للشاعر صالح الغازي ( نازل طالع زي عصاية كمنجة ) نلاحظ انتمائه إلي جماليات قصيدة النثر وشعر التسعينيات ، تخلي الشاعر عن القوالب الجاهزة والأشكال المجازية الكلاسيكية مقابل بناء القصيدة المشهدية التي تعتمد علي استخدام آليات فنون أخري ( بصرية – قولية ) ، اهتم في طرحة الشعري بالجزئي والهامش والحركي والذاتي ، والتعبير عن الواقع اليومي الشخصي والاحتفاء بالحواس ، نلاحظ هذا من عنوان ديوانه الأول الذي يكشف لنا عدداً من الترابطات والتناقضات في الذات والمجتمع ، ففي قصيدة ( مدلدل رجليا بعاكس بجزمتي روس اللي قاعدين )، نلاحظ طول العنوان ومحاولة صناعة مشهد جزئي من هذا العنوان يتضافر مع المشهد الكلي للنص الذي يستدعي فيه الشاعر تجربة رحلة في قطار درجة ثالثة وهو يجلس علي رف الأمتعة فوق رؤس الركاب ويرصد عالم الدرجة الثالثة ، بداية من بائع الكوكاكولا وحتي البنت الصغيرة التي تصرخ في الزحام ، فمن خلال هذا المشهد البصري المحدود يرصد لنا هذا العالم الذي هو جزء منه لكنه لا يتفاعل معه بشكل أو بآخر ، يكتفي فقط بالمتابعة البصرية يقول
البنت 17 سنة بتصوت في الزنقة
طبعا مش هارميلها حبل واشده
عشان أخدها جنبي أنشفلها عرقها )
نلاحظ الموقف الانسحابي للذات الشاعرة ربما لقناعة الشاعر بأن زمن الشاعر المخلص والفارس قد ذهب بلا عودة لكنه يتحول في قصيدة أخري إلي موقف إنه إيجابي يتسم بالثورة والتمرد علي الواقع والرغبة في كشف زيف هذا الواقع للخروج به من حالة السكون والبلادة يقول في قصيدة بيتك بيتك
جيت لكم
أنزع من راس الأشجار باروكتها
أقطم كل العواميد الواقفة زي الألف
أحرق كل الإطارات
وازووم
الديوان الأول للشاعر تجربة بها خبرة جمالية بالموروث الشعري ووعي بالطرح الجمالي للشعر الحداثي وفنيات قصيدة النثر إلا أنه لا يتخلي نهائياً عن وعيه بالموروث الموسيقي والتراتب الصوتي للكلمات والأحرف يقول ( إمسك عصاك عساك )
قصيدة بطاقة بريد ، ( يا خنقة العصفور الأخضر في ليل أغبر ) قصيدة قصيرة ربما ليؤكد أن تجربته الشعرية نتاج لهذه الموسيقى وإن اتخذت قوالب وأشكال أخري في ديوانه الثاني ( الروح الطيبة ) والصادر عن كتاب المرسم الإبداعي دار إيزيس سنة 2008 يسعي الشاعر إلي تأكيد تجربته وتحرير نصه من البلاغة الزائفة ليعبر عن إنسانيته الخالصة ويطرح أسئلته الخاصة بوجوده الحي .
· النهاردة أنت مع مين ضد مين ؟ هذا السؤال الضمني في أول نصوص الديوان يضعنا في حيرة الإجابة فنحن بالفعل نحيا زمن التكتلات رغم عدم الانحياز لقيمة إيجابية ما يقول في بداية النص
دايما الجموع متعبة
وكل واحد
ملزوم ينفرد بواحد
يطلع في الباقيين عيوب الدنيا
ولو مالقاش حد
ينفرد بنفسه
فالإنفراد بالأخر أو بالذات لا يعني غير الثرثرة والنميمة علي الأخرين وفي نفس النص يقول شايل معايا زمزمية متعبي فيها حكمتي المكبوتة مستني تحقيق قصيدة " في الطريق لتورتة الزفاف أسلي نفسي بتصليح عدسة نضارتي اللي بتتكسر قدام المواقف المستحيلة )
· الشاعر هنا لا يلجأ للرموز والمجازات وغير مشغول بالبحث عن معنى نهائي مع استدعائه لقصيدة من ديوانه الأول وهي في الطريق لتورتة الزفاف " هذا الاستدعاء والتداخل بين النصين يستدعي أيضا مراجعتنا لهذه القصيدة والتي يقول فيها وفي كل خطوه علي السجادة الطويلة / يلبسوا بعض ملابس الزفاف ، جرافته .. طرحة ، تخشي إيده شعرها موده – يا سلام لما تملي تقاطعك عيني ، ورا الشيش بيتلصص عليهم ، يموتو في جلدهم ، ف ، يدور الفراش الملون حوالين راسهم " هذا الاستدعاء مرتبط بفكرة الزمن الحاضر أو اللحظة التي تقف فيها الذات عاجزة ووحيدة تسعي لتحقيق حلمها المشروع في الزمن الماضي لهذا نجد الشاعر يضع نفسه في اللامنطق ويقدم لنا حكايته مستخدما وسائل القص وتقنياته يقول
· الست بتتخانق مع العربيات بحكمة شعرها الأبيض ،
وبحنية واخدة جوزها تحت جناحها
وبتعدي الشارع ،
لكل واحد الروح الطيبة ،
اللي ما بتتعاملش معاه علي إنه لوحة نشان ،
ممكن تكون قدام العين مستنيه تفتح
نص " الروح الطيبة " الذي يصدره الشاعر بجملة افتتاحية منفصلة ( وجودي بيطغي علي كل شئ يعطينا الايحاء بأن الكتابة ليست فقط للجسد والاتهام به علي اعتبار أن هذا هو ما يملكه الإنسان ويسعي لاكتشاف أسراره وخباياه ، فالإنسان أيضا روح قد تكون شريرة لكن هناك دائما الروح الطيبة والتي من الممكن أن تشرق وسط صخب الحياة وشرورها لا يعني هذا بالطبع أن الشاعر مهموم بتصدير فكرة الطيبة والتي ترادف في الوعي الشعبي السذاجة أو عدم الحرص أو العبط ، الروح الطيبة هنا قرار بعدم تعكير صفو الذات لسبب خارجي ما سيطرة الروح الطيبة بإرادة الذات هي السبب الحقيقي للفرحة
يقول في قصيدة " الفرحة ألوانها كتير ، صـــ 16
مشيت كتير ،
وفي كل لفة يتغالس عليك بياع الورد ،
يا خدك من نفسك ،
إنت ماكرهتوش ،
إتعاملت معاه كأنه لون من الفرحة
قد تكون هذه السيطرة هي أيضا السبب الحقيقي للإحباط والاستسلام لبؤس الواقع يقول في قصيدة ( إنتظار ) صـ 23
الأتوبيسات تخبط كتفها في كتفه ،
وهو محافظ علي التكشيرة ،
فارد جسمه بالعافية ،
عايزة منه إيه ؟
ياخدك بالحضن ويخلص
الوقت فات بسرعة 3 أتوبيسات راحت ورجعت
ـ والشمس هانم
، ما سكه جزمه ،
وبتديك فوق رأسك ،
إنت صعبان علي قوي
هذه الحالة الوصفية للانتظار تحت الشمس الحارقة بالتأكيد تخلو من أي معنى للفرحة أو السعادة
هل سيطرة الروح الطيبة علي الجسد هي السبب المباشر في الشعور بآلام هذا الجسد والقلق والاضطراب الذي يعانيه نتيجة سيطرة الروح الطيبة عليه ؟
· نصوص الديوان تطرح الصراع الداخلي وازدواجية الطبيعة الإنسانية ما بين الخير والشر والروح والجسد ، نجح الشاعر أن يجسم لنا مشاهده المرئية والتشكيلية مع طرح همه الشخصي ورغبته في تعميق الفكرة الشعرية ومنحها الحق في أن تخلق شكلها وتطورها كما يحفر النهر مجراه " يقول في قصيدة ( بين الحضور والغياب صــ 36
يا تري قلت إيه مسك لو الأرض تنشق ،
بلاش ندي فرصة لحاجات بسيطة تزعلنا ،
عيون شاردة في لهب الشمعة الرقاص ،
ناوية تمشي ،
أنا .... ،
ح أستن الملاك الصغير يفرد جناحيه ،
وصابعي متثبت فوق لهب الشمعة
ينسج الشاعر هنا عالما يخصه وحده فبرغم بساطة المشهد إلا أن هناك عمق في طرح الفكرة الشعرية يضعنا في النهاية أمام مشهد خيالي حلمي بلغة لا تميل إلي الفوضوية ولا تنحاز لفكرة التفكك اللغوي لكنها تسعي إلي استخدامات صوتية مغايرة ، يقول في قصيدة ( إكرام المريض صــ 16
( الزمن كبير ،
أكبر من هتلر ،
كان ممكن أبقي زعيم ،
لكن أحب أبقي مع نفسي
عادي
روحوني بقه ،
لو ماروحتونيش ها أطير
كده طب ف ف ف ف وووو )
يترك لنا الشاعرأحيانا فراغات منقطة داخل النصوص فنري أحيانا جمل غير مكتملة ربما لأن تعدد مستويات اللغة ، والجمل الغير مكتملة من السمات الجمالية لقصيدة النثر بشكل عام يقول في قصيدة ( يوم جديد مغامرة جديدة ) صـــ49
( ما تنساش ،
المكان اللي يريحك خد منه تذكار ،
تفتكر به المواقف الحلوة
وخد منه تذكره رجوع
بأنك تختار أمنية تحققها لأعز الناس فيه
أنا مش فاضي ، ح أقابلك أخر اليوم ،
علشان أشوف معاك كام تذكار
( إلا إذا
نري في هذا النص وفي نصوص أخرى المزج ما بين السخرية والخيال ينتج عنه المفارقة المدهشة يبدو ذلك جليا في قصيدة أخرى بعنوان ( بطل حقيقي ) صـــ 53
اللي قاعد وسط الصخور ،
يشرب الخمور الرخيصة ،
أبو تجاعيد منها ره ده ،
كان شعره أسود طويل ،
تتشعلق فيه الملايكية تلاعبه ،
وتقف علي كتفه تحارب معاه ،
كان أشجع محارب
هذا المزج ما بين السخرية والخيال في وصف شخصية هذا البطل المأزوم أو المهزوم لا يوصلنا فقط للدهشة ولكنه يشعرنا بحجم المأساة يقول في نفس القصيدة
كل الراويات والأساطير
هو اللي حكاها
ونقلتها عنه كل الألسنة ،
أرجوك ،
لو هتروح له ماتفكروش بالأسامي دي ،
لأنه بيتشينج ويخبط دماغه في الأرض ،
ويشتم أي حد يلمسه ،
والدموع تنزل من كل حته في جسمه ،
خليه يكلمك في الموضوع اللي يختاره
ويحكيلك لوحده
الشاعر هنا يطرح مأساة محارب أو بطل بشكل إنساني بتحوله إلي مجرد صعلوك شرير يشرب الخمور الرخيصة لكنه مفعم بالحس البطولي النقي ، لم يورط نفسه في دور الفيلسوف أو المستغل للمواقف هو مجرد بطل شريد لا يقول غير الحقيقة التي يعرفها ولا يجد في النهاية غير الدموع ، هو بطل متوقف معطل ، سابق ، يمتلك حقيقة معطلة وشريرة يطرح الشاعر سخرية مريرة تضعنا أمام أسئلة عن معني السعادة الذكري البطولة الهواية ، الوجود الإنساني بشقيه الجسدي والروحي ، يحول الأشياء إلي نقيضها في نسق شعري غرائب ، يقول أيضا في قصيدة علي سور الكورنيش
لما الليل يتخفي ويبقي نهار
ولما يبقي فيه تأثير للهوا
الأرانب تبقي أمواج
الطيور تبقي ناس مالهاش قناعات كافية
هل لهذا النسج الغرائبي علاقة بفكرة العود الأبدي والخلق الدائم للأشياء ..؟
ربما ! وفي قصيدة برنجي .. كنجي .. شنجي ) يقول
3 لمبات صفرا بتحارب الريح ،
قول سكرانين
واقفين وسط صحرا ضلمة
، وفاكرين نفسهم 3 نجمات ،
لكنهم منورين فعلا ،
لا تنين شخصهم بيتغير كل يوم ،
لكنهم دايما إتنين
يصور لنا الشاعر عالم الجندية والحراسة الليلية والوضع الثابت للجسد أثناء الحراسة والملل والإرهاق الجسدي من كثرة الوقوف يقول
الوقوف تعب الرجلين والضهر ،
ففتحوا بوابة الحواديت ،
ولما الريح زادت وقفلتها ،
إضطروا يغنوا ،
ولما خلص الغنا ،
لقو نفسهم مسكين في بعض ،
ولما الزهق إتسلل ،
ومسئولية الحراسة ضلمت العيون ،
مسك كل واحد قلم ،
وفضل يكتب ع الحيطان
بإخلاص غريب .
نصوص الديوان تطرح لنا الروح الطيبة للذات الشاعرة والتي تتخفي بين الجموع المتعبة تارة وراء أكياس الشيبسي تارة وبين صخور بحر الإسكندرية تارة أخري لتتحول بعد ذلك إلي هيئات مختلفة سلحفاة سفينة ، حصان ، طيارة إنها روح المفارقة المدهشة التي تسيطر علينا منذ بداية الديوان وحتي نهايته لتضعنا أمام مغامرة موحية وتجربة شعرية لها خصوصية لا تعتمد علي الوصفة الجاهزة لقصيدة النثر لكنها تسعى "إلى التجريب الذاتي بالتداخل مع فنون بصرية أخرى في صدارتها الفن التشكيل يقول في قصيدة ( الفرحة ألوانها كتير صـــ 15
سيب الريشة للحركة الحره ،
سيبها ترتجل ولا يهمك ،
حواليك الألوان الزاهية ،
وقاعد براحتك
ويقول في قصيدة قالت واحدة واحدة ) صــ 27
باصص للطريق الضلمة المصفوف بالشجر
في البلد دي الواحد – بالعافية – يبص شبر قدامه ،
الجنايني قاللي كده ،
وهو بيشاور علي اللوحة اللي بيرسمها
والجنايني هو الفنان أحمد الجنايني التشكيلي المعروف صديق الشاعر وصاحب لوحة الغلاف للديوان والتي تضافرت مع الرسوم الداخلية لرحاب إبراهيم والنصوص لتصنع لنا عالما شعريا مختلفا وتجعل من ديوان الشاعر صالح الغازي ( الروح الطيبة ) لوحة مكتملة لا يمكن قراءتها إلا من خلال عنصر التشكيل في النصوص وعنصر الشاعرية في لوحة الغلاف والرسومات الداخلية للديوان.
حاتم مرعي-السويس
نشرت القراءة في كتاب العامية كنز الابداع
ونشرت في عرب نيو
علي الرابط
تعليقات
إرسال تعليق