دراسة أ.خالد الصاوي: المادي والمعنوي في ديوان سلموا عليا وكأني بعيد..
استهلال
تسيطر حالة الهدوء الإيقاعي على الديوان وكأنك تشعر بخفوت حدة التوتر والصراخ في ذلك العالم الذي نعيشه ، وذلك يرجع للذات الشاعرة التي استخدمت الحديث عن نفسها ومعها دون صراع بين أطراف تتنازع ، بل هو صراع خفي يحمل في طياته التأمل في طبيعة المكان والأحلام "إلى مكان يساع القدم والأحلام " المقدمة .
مستخدمة الذات الشاعرة ضمائر المتكلم ويظهر ذلك جليا في عنوان الديوان الذي يتكون من جملتين الأولى فعلية تنتهي بياء المتكلم والثانية اسمية حالية وتبدأ بياء المتكلم بعد الحرف الناسخ كأن ولو حذف الناسخ " كأن" فيصبح الضمير المتكلم له صدارة الجملة الثانية ونلاحظ أن استخدم واو الجماعة تعبيرا عن الجمع الغائب ، في مقابل المفرد الحاضر / الذات الشاعرة وتقارب المسافة اللفظية في تكرار ياءالمتكلم هنا ليخلق ذاتا قوية تتوازى مع الجمع الغائب إضافة إلى حضور الذات الشاعرة في مقابل غياب الآخرين ، وهذا الإحساس الذي وصل إلينا يؤكده الشاعر في قصيدته " النور عندنا من كل حتة " فهو يجعل من الآخر مخاطبا " اخلع نعليك وأحزانك " في مقابل الذات الجمع المتكلمة " قلوبنا " ص13، وتأصيلا لحالة الهدوء ندرت الأساليب الإنشائية والمشتقات مع الركون إلى الزمن الماضي وظل المضارع المستخدميتحرك ويدور داخل الزمن الماضي ، وخاصة في مجموعة تدوم الزيارة ، وتقضية وقت ليعلو صوت الإيقاع في الحاوي الهندي وسلموا عليا وكأني بعيد
جدلية المادي والمعنوي :-
الصراع بين المادي والمعنوي أو المحسوس والمعقول ظل مسيطرا على الأعمال الإبداعية على مختلف فنونها ، وتعاملت مع المحسوس / المادي على إنه المدنس ومع المعنوي/المعقول على إنه المقدس ، وتناولت الذات الشاعرة في الديوان كليهما دون صراع ودون تحديد لطبيعة كل منهما من التقديس والتدنيس بل جمعهما معا في مقدمة الديوان الغير معنونة " إلى مكان يسع القدم والأحلام إلى الأمل ... " فالمكان الذي ينشده يأمل أن يساع القدم / المادي والأحلام – الأمل / المعنوي " لكنه يغلب الجانب المعنوي كأمنيات في قوله " بلاد تتبناه "و يحمل التبني في طياته المادي والمعنوي لكن يحركنا فيه الجانب المعنوي أكثر لأن التبني يحمل عاطفة الأبوة والأمومة معا .
وفي قصيدة "النور عندنا من كل حتة " تبدأ بسؤال يفتش عن كينونة القادم لا نوعية ما يحمل ويتبع السؤال أمر " اخلع نعليك وأحزانك " وهنا تريد الذات الشاعرة تجريد القادم من الحسي والمعنوي على السواء فالنعل بما يحمل من مدنس والأحزان بما تحمل من آلام .
وكما رفضت الذات الشاعرة في النص السابق المادي والمعنوي على السواء نجدها في قصيدة " ريحة الزهور " تستقبلهما معا مرحبة بآثارهما ، فتبدأ بالمعنوي " عطوف – ودود "
" تحسسك إنك بني آدم " فقد ربط الشعور بالإنسانية بهذه المعنويات و" حنينة " ثم ينتقل من الشعور إلى المادي الجميل " صحبة زهور" " لقيت ريحة ياسمين " وربط الذكرى برائحة الياسمين ،وهذاالتضافر بين المعنوي وبين المادي ينم عن تلاحم وتواصل الذات الشاعربنفسها .
وفي قصيدة الغول نجد أن المعنوي والمادي يغيبان عنا بالألفاظ الدالة عليهما مباشرة إلا أن استخدام السرد الشعري باستخدام الراوي العليم / الذات الشاعرة كان عوضا عن الألفاظ المباشرة "وصدره ينتفخ زي بالونة " تنم عن الضيق وأيضا " احتياجك للفضفضة "واستخدم الفضاء المكاني للتعبير عن الحسي "شارع – الحي – بيتك – الصالون – البلكونة " ثم يختتم القصيدة بــ "لازم تعد فناجين القهوة بعد ما يمشي "وهي العبارة التي تتناسب مع عنوان القصيدة الغول الذي يلتهم أي شئ حتى وقت الذات الشاعرة ، وخاصة أن الشخصية المروي عنها لا تضح ملامحها العنفوانية ، حتى عندما خرج منه الغول فهو يؤرخ ويحكي عن ذاته المتضخمة ثم تنتهي الحكاية كلها باكتشاف ضآلتها في هذه النهاية الرائعة للقصيدة .
أما قصيدة غضب فعنوانها ذو دلالة معنوية خالصة ونشعر أن الهدوء المسيطر على الديوان يبدأ في التلاشي بتكرار فعل الأمر افتحوا واستخدام اسم الفاعل فاير والمضارع الذي تحرر من زمن الماضي " كل جسمي ينتفض تعلا دقات قلبي " ثم يختم بحكمة مبررة هذه الثورة التي تعيشها الذات الشاعرة " ما نعرفش تمن أي شئ إلا في النهاية " فتأخذنا الحكمة لحالة من الندم نستنتجها فالمعنوي كما اعتدنا من الذات الشاعرة متناغما مع المادي في تآلف لايشعرنا بسلطة الحكمة علينا .
وفي قصيدة " البعيد عن العين بينور في ألبوم الصور " نلحظ تصرف الذات الشاعرة في المثل الشعبي "البعيد عن العين بعيد عن القلب " هذا التصرف الذي يدل على حالة التأمل التي أشرنا إليها سالفا والتي تفرض على القصائد حالة الهدوء الإيقاعي ، ونلحظ أن الفرق الزمني بين هذا المثل الشعبي وبين عقلية الذات الشاعرة كبير حيث أنها استطاعت أن توظف مفردات واقعها الحداثي في الثورة على المعنى التقليدي للمثل وما يحمل من أفكار ، ونلحظ أيضا كسر حالة الهدوء الإيقاعي باستخدام نفس الآليات السابقة من الفعل المضارع وبعض المشتقات والذات الشاعرة تصدر لنا حالة البهجة " منورين – تبتسملي أحضانهم – أحلامهم " ثم تسيطر عليها حالة الغياب فتجد نفسها شبحا باهتا ، ومن الواضح هذا التناغم بين المعنوي "الفقد – الغياب – الذكرى " مع المحسوسات "الألبوم – الشمس " وتتسلل الحكمة في ثوب الصورة البيانية لتمررها على القارئ بلا سطوة للذات الشاعرة لتظل محض تصور خاص بالشاعر " كأن كل واحد مننا بيسجل حضور التاني "ومثل هذه الومضات تدل على حالة التأمل التي تنتج لنا تصورا عن العالم من خلال عين متأملة راصدة .
وفي قصيدة " جدار قديم " يسرد الشاعر عن موظف الأرشيف والدوسيهات والحبر والقميص ومحاولة النسيان " وارمي ورا ضهري "رغم كل معناته "أعاني من وجع سمانتي " لكنه أيضا يخفي الأحلام فنجد تضافرا واتساقا ملحوظا بين المعنوي المعاناة والأحلام وبين المادي داخل الأرشيف ليدل ذلك على تعاطي الواقع المعاش وتمريره رغم ضياع الأحلام ولكن العالم المادي هو المسيطر " وضهري متشرخ " .
وفي قصيدة " قد ما بحب " فالعنوان يبدأ بلفظة معنوية واضحة " حب " وتطل لفظة " الليل " في مفتتح القصيدة مستدعية متلازمتها " الحلم " " أمسية " ويبدأ الحدث ليحرك الإيقاع مستخدما دلالات الأفعال المضارعة " يجري – بيرتب – يملا – بتهلكني – أطلع – يتكسر – أرقص – يسقفولي .....إلخ " ونلاحظ تناغم المحسوسات مع كل ما هو معنوي فبينما تتم الحركة داخل الحلم وسيطرة حالة الرعب والتفكير والتذكر نجد حالة موازية من المحسوسات تؤصل لهذه الحالة من التفاعل والحركة الانفعالية للذات الشاعرة " يتكسر – أرقص على الإزاز زي حاوي هندي – يناولوني الإزاز أمضغه " ثم يرجع ليؤكد رتابة الفعل من خلال تكرار نفس اللحظة الزمنية " ليل يناولني للتاني "مع فقد الذات الشاعرة للإرادة في التغير فتعاود لتكرار عبارة " ونفتكر الأحبة وقت الحنين – ما نفتكرش الأحبة غير وقت الشدة " فهذه الذات الراوية والتي ملأت حيز القصيدة بالحركة البهلوانية التي يستخدمها الحاوي الهندي تستسلم وتتراوح أفعالها بين إظهار الضعف الإنساني " ارتعش
" ولد تايه في السوق
" عطن السنين على القلب روماتيزم
فيأخذ موقفا متوازنا مما حوله " بقيت أكره قد ما بحب ..." ويعلن هزيمته المأساوية
الحاوي يشلب دم – قلبي بينزف – الولد تعبان من النهجان " ويلقي علينا في هذه اللحظة مجموعة من التأملات التقريرية ليعلن بها كيف ترى عينه العالم " قانون السوق الكف والقفا – الطبيعة بنت الغيطان – والسحر روح الصحرا – أما المدن بلياتشو
وليلها بيخبي اللي بيشوفه " وهنا يحاول الاشتباك مع مفردات سابقة تسللت لنا عبر القصيدة مثل " السوق – الساحر – الليل " فيوجد علاقة بين ما أنتجه لنا من رؤية مع انفعالاته ، لكن تم الزج ببعض الجمل التقريرية دون تفاعل ولا اشتباك لا مع المفردات ولا مع مدلولاتها فظلت هذه الجمل غريبة لا تساهم في حركة الإيقاع الشعري بقدر ما كانت ثقلا على المنتج الدلالي وساهمت في تقريرية العبارات " الطبيعة بنت الغيطان – أما المدن بلياتشو "
وعلينا ملاحظة العنونة الداخلية لكل مجموعة من القصائد وكيف يتم تفعيل حركة الإيقاع بشكل تصاعدي متناسبا مع الحالة التي يطرحها كل عنوان
فيبدأ من العنوان سلموا عليا وكأني بعيد ،لزيادة الحركة الإيقاعية ويبدأ في قصيدة " مقام الشنط " فيعتمد على تكنيك قد مارسه في بعض القصائد الأولى من الديوان وهو التنوع بين الخبر والإنشاء فيبدأ القصيدة بسؤال " ممكن أشيل الشنط عنك –" وكذلك تكرار الفعل الأمر في القصيدة " سيبني أشيل معاك - سيبها مكانها - سيب الأحمال – ياللانمشي " إضافة إلى استخدام الفعل المضارع الذي يعطي حيوية للحركة الإيقاعية ، ومن خلال ذلك يطرح لنا رؤيته حول تمحور الذات في الذكريات والأحلام ودعوة من الذات الشاعرة عبر حوارها للآخر للتخلي عنهما فالذكريات تجعلك تعيش زيفا والأحلام " تطير عصافير الشجر " ثم يدعوه لأن يكون كما هو مجردا عن أي أحمال ثم يضع له منهجا ويفرضه عليه وكأنه هو المثال " أسلوبي إنك تعيش ، زي مارد زي قزم واللا قرد عيش..." ،" سيب الأحمال وتعال كمل ياللا نمشي ، مع ملاحظة تكرار مادة " سيب " سيبها مكانها – سيب الأحمال " مسبوقة بالفعل تخلع " بس تخلع أي حاجة مش بتاعتك " وكأنها دعوة للاتساق مع الذات بعيوبها ونواقصها متخلية عن الذكريات والأحلام التي تعرقل الاستمتاع بوجودنا الحي ، مع ترك كل الأحمال بما تحوي " الشنط بقت كتير ، مش ها ينفع أخفف عنك ، سيبها مكانها ، ده مكانها ومقامها الانتظار " فالشنط بما تحوي من أشياء فهي تعطي دلالة بالسفر والانتقال والترحال مثلها مثل الهموم والأحمال المضنية ، لذلك علينا التخلص منها لأنها تنتظر في المحطات ونحن - المسافرين -
نغير محطاتنا ولأن الشنط تابع يمكن التخلص منه فيجب عندما تزيد الأحمال والهموم أن نتركها في أي محطة لأن الإنسان غير مرهون بالانتظار ، وهذه الرؤية وحالة التأمل التي تسيطر على الشاعر إنما هي السمة الأصيلة في الديوان والتي تجعله أحيانا يرسل لنا جملا تقريرية حاسمة " ده مكانها ومقامها الانتظار " .
وفي قصيدة " شعار المرحلة " يحا ول الشاعر اللعب على المتناقضات مثل " تكشف المتخبي " ، في خلفية دخان المسدس شايف الأشباح "فهذا هو عالم السلاح لا ينتج عنه سوى أشباح غير محددة الملامح تحمل الفزع والخوف ، وذلك على التناقض من الجملة التالية لها " وسوبر مان خلفية شاشة الكمبيوتر " وسوبر مان البلطل المخلص يظهر كخلفية للعلم والتكنولوجيا فنجد أنفسنا بين تناقضين أساسيين : عالم السلاح والقوة ، وعالم العلم والكمبيوتر " وأملك قيراط في جنة العصابات " نلاحظ التناقض بين كلمة جنة وعصابات
" بجري كأني قاعد " " بسامح الأعداء ومش عارف أسامح الأصدقاء " فهذه المفارقات والمتناقضات التي عمد إليها الشاعر ليوضح أن العالم مبني على هذا التناقض وأن هذا التناقض غير محسوب ونتائجه بالتالي غير محسوبة .
وفي قصيدة " أنا جيت " يستخدم نفس التكنيك واللعب على التضاد " شفت نفسي كده ومحدش شفني " يحببك فيا ويكرهك في الغير " ، ونلاحظ أن اشتباك الذات الشاعرة مع العالم " الغير " تدعوه للتعجب من وجوده الذي يحاول إثباته مجددا " عشان أثبت وجودي من جديد " معتمدا في إبراز حالة التعجب على استدعاء شخصية يتوجه إليها متعجبا " شفت الكلام يا عبد السلام ! " وتكرار الجملة مع استخدام جمل تعجبية المغزى عن طريق استخدام الجمل الاسمية " نجمة جه عليها الفجر وما نورتش لحد ! بنت انقطع عنها الحيض !"
وكأن الشاعر في نهاية المطاف قرر أن العالم يحتاج الاشتباك مع الآخر وعدم العزلة " بقيت باخرج من مداري وأمشي هنا جنب الناس وكأني منهم ...مدوا الأيادي "
الاشتباك مع الحدث العام :-
ويبدأ الشاعر الاستباك مع الحدث العام بداية من عنوان " الزرافة تحت رق " وفي قصيدته " الزرافة المحترقة " ونجد رؤية الشاعر الاستشرافية كمراقب للحدث العام هي التي تطل علينا رغم محاولته فتح مساحة للرؤية أوسع بوصف حال الزرافة لكن الجمل الاستشرافية والتي تتناغم مع أحداث اللحظة المعاشة الآن تستحوذ على المساحة الأكبر " بداية عصر الاشتعال
تنطر شظايا على البيوت والناس
يضرب الحراس تعظيم سلام
صاحب الهيلمان باليمين يحمي نفسه بالشمسية
وفي الشمال الصولجان
يتفقد نجاح العشوائية "
ثم يعمد للسخرية من هذا الواقع ورفضه
" يا فرحة أمننا الغذائي في أمننا القومي !
وفي قصيدة " الزرافة منورة "
وهنا يحلل الحدث العام وزيارة أوباما لمصر فتتجه القاهرة للزينة والبهرجة فرحة بالقادم مع تضفير ذلك بالسخرية أيضا " شفت العرايس وهيا راجعة من عند الحفافة ؟
آدي القاهرة بقت منورة من غير أهلها
ونلحظ الاستفهام الذي يحمل التعجب والدهشة ، ثم تذييل الجملة الثانية بعبارة " من غير أهلها " ثم يعمد لتوصيف حالة الحركة السريعة والاستعدادات بجملتين استفهاميتين
" شفت مين رايح
شفت مين جاي "
ثم توصيف مبررات الاحتفال " ملامحه إفريقية
الشيخ عبدالله مينو "وتصدير الجملة الثانية بلفظة الشيخ ، ثم استدعاء مينو بلقب عبدالله يتم استدعاء التاريخ بمثالب نتائجه ، واستدعاء الوجه الاستعماري للقادم عن طريق هذا الاستدعاء التاريخي ثم يستخدم السخرية " لابس الجلابية وح يقيم الصلاة والنبي ده عسل
يا بخت الأمريكان ويا صلاة الزين "
الباحث: خالد محمد الصاوي
ديوان سلموا عليا وكأني بعيد
للشاعر صالح الغازي
صدر عن دار العين للنشر بالقاهرة2012
نشرت في صحيفة البداية
31مارس 2013
على الرابط
تعليقات
إرسال تعليق