كأن المدينة لم تُصمم لغريب/ قراءة في رواية "الباص" د.رحاب ابراهيم
الكتابة فعل شجاع , شجاعة الكشف والوقوف بصدق أمام المشاعر والأفكار
لكن هذه الرواية إضافة للشجاعة الأساسية لفعل الكتابة , فيها شجاعة طرح موضوع ليس من السهل تناوله.
جرى العرف في السابق الإشارة لمنطقة الخليج في الروايات في مصر وأحيانا أيضا في الأفلام دون تسمية البلد ربما لاعتبارات سياسية أو مجتمعية محدودة وضيقة وقتها
لم يكن الحراك الثقافي والمجتمعي قد خضع لعولمة وسائل التواصل الافتراضية والتي فرضت رؤية أشمل للمجتمعات في صورة تفاصيل حياتية دقيقة
خضع المغترب لتصنيفات مجحفة سواء في البلد التي قدم منها والتي ينظر له فيها على أنه شخص تخلى عن مجتمعه وعاداته مقابل الرفاهية المادية , وفي البلد التي جاء ليعيش فيها باعتباره مجرد نتوء في نسيج المجتمع
جاءت الرواية لتحدث خلخلة في هذه النظرة السطحية وتتسلل بنعومة تحت السطح الراكد لتعيد تشكيل المشهد عبر تفاصيل إنسانية عادية جدا لكن لها معان مؤثرة... عبر حكاية متفردة رغم تكرارها.
هي حكاية شاب يسافر للعمل في الكويت حيث يكتشف المكان وتفاصيله والمجتمع الجديد حوله في خط درامي رئيسي , يتقاطع بعد فترة مع خط آخر مشوق حيث تقع جريمة في محيط هذا الشاب مما يضفي جوا من التشويق و الترقب ومحاولة تخمين القاتل..
هناك أيضا أحداث الفلاش باك والأحلام والتواصل الخادع عبر الماسنجر والصور المنتقاة على الفيسبوك كلها تفاصيل تم استيعابها وتضمينها في نسيج الرواية بانسجام..
مع التركيز على الرمزية أحيانا بدءا من الكرة الصغيرة التي وجدها في المطار لحظة وصوله والتي سوف يتحسسها في جيبه أحيانا فيما بعد وكأنها كرة القدر التي ألقاها في الحلم وعليه أن يتتبعها للنهاية.
هناك أيضا أحداث تبدو عابرة لكنها تحمل حياة كاملة لأفرادها في كلمتين مثل جلوريا الفلبينية التي تضطر للعودة لبلدها فجأة بعد وفاة زوجها في حادث ..هذه حياة كاملة تتبدل في لحظة فعليها أن تفقد مصدر دخل ثابت وتعود للاعتناء بطفلتها الصغيرة ولا يأتي ذكر تبعات ذلك سوى من خلال ابتسامة حزينة على وجه زملائها سرعان ما سوف تتلاشى حين يعود كل منهم لهمومه الشخصية.
اللغة هنا هي لغة غير انفعالية في مجملها
تخلو من العصبية والحدة ,ومع ذلك تسرب قدرا كبيرا من المشاعر القوية عبر تعبيرها عن الارتباك والترقب والحنين والوحدة
هناك أيضا لهجات متنوعة لجنسيات أسيوية أثرت في أسلوبها على اللغة المتداولة في المجتمع..
كما طرحت الرواية نقطة هامة وهي مشكلة الترجمة للغة العربية حين يقوم بها شخص أجنبي غير متمكن من اللغة العربية فتنتج مصطلحات وتراكيب غريبة ومضحكة أحيانا.
أما الراوي فيمكن أن نطلق عليه "الراوي غير العليم "إن جاز التعبير ..إذ أنه طول الرواية يشاركنا دهشته وتساؤلاته وتعجبه مما ومن حوله..
كما نستطيع بسهولة التقاط روحه الطفولية الواضحة في لمحات بسيطة ومؤثرة مثل حرصه على الاحتفاظ بألعاب ماكدونالد أو حين يكتب بإصبعه على بخار مرآة الحمام
CAMAY
"بينما لم يظهر على المرآة وجه ملكة جمال أو نجمة سينمائية كما في اٌلإعلان.لكن ظهر رأسي كبيضة مسلوقة !؟
أو حرصه على ترك التلفاز مفتوحا حتى يشعر بالونس حين يعود للبيت..
وتراوح الوصف ما بين عين الراصد الخارجية والتي تلتقط تفاصيل الشوارع والباصات بألوانها وأرقامها المختلفة وشكل التذاكر والعملات الورقية التي تتشابه عليه في البداية والجنسيات المختلفة من رجال ونساء..
والوصف الداخلي مثل وصف جفاف الحلق والذي لا يدرى أهو بسبب العطش ام قلة الكلام..
أخيرا ,تمنيت أن تحتوي الرواية على خيط درامي يجمع بين هذا الغريب وصاحب البلد وإن كان مفهوما أنه مع النظرة الضيقة للبعض يصعب تناول مثل هذه العلاقة بإنصاف وموضوعية لأن أي موقف طيب سوف يتم ترجمته على أنه تملق وأي موقف سيء سيتم ترجمته على أنه هجوم مع الوقوع طبعا في ورطة التعميم
لكن يظل تناول مجتمع المغتربين سبقا يحسب للرواية
هي رواية تتشبث بالروح وتحاول الحفاظ عليها وعلى إنسانيتها وعدم الانسياق للفخ الذي يقع فيه كثيرون " تصرفاتهم لا تحمل أي معنى سوى فقدان الروح"
------------
مقال د. رحاب ابراهيم
كأن المدينة لم تُصمم لغريب
قراءة في رواية "الباص"لصالح الغازي
نشر في الهيئة المصرية العامة للكتاب-مجلة عالم الكتب العدد 155مايو 2024-
تعليقات
إرسال تعليق