مال الحريص يأكله العيار مقال صالح الغازي
الحريص معناه معروف. أما العيار، فالتراث العربي فيه حكايات عن العيارين والشطار والزعار والحرافيش والعياق والصعاليك والجدعان، وكل فئة لها سمات وملابسات تاريخية، يجمعهم أنهم يعيشون على هامش المجتمع وبطولاتهم خارج القانون، وقد لاقت اعجاب العامة. كأن العامة أرادت أن تدين نظما استأثرت بالثروة والسلطة بتمجيد بطولاتهم، ولا نعجب حينما نسمع قصص التسترعليهم والاشادة بأفعالهم كونهم نجحوا في التعبير عن الرفض الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. وكانت لهم أدوار بارزة في صد الطغاة والمحتلين والقوى الخارجية، حيث كانت النظم تنهار في هذه الفترات، فيظهرون هم ونجد ذلك في العراق والشام ومصر، مثلا الخليفة العباسي استنجد بالزيبق لإخماد الفتنة عام 443 هجرية. وقد سجل المؤرخ والباحث العربي على مر العصور اعجابه بالعديد منهم، ونسجت القصص الشعبية عنهم مثل «على الزيبق ودليلة المحتالة وأحمد الدنف وابن حمدي لص بغداد الطريف كما وصفه التنوخي والشاطر حسن»، ويروى أن عدد العيارين في انتفاضة أيام الفتنة بين الأمين والمأمون وصل الى مئة الف عيار! ولا يعقل أن يكون اتباعهم من الذعار. وكما ورد في كتاب الشطار والعيارين للدكتور محمد رجب النجار أن دليلة المحتالة كانت تقود أربعة وعشرين ألف عيار في سيرة علي الزيبق. فهل يعقل أن يكون هذا العدد كلهم لصوص؟ بما يعني أن العامة كانت معهم! وعثمان الخياط الذي سمي الخياط، لأنه نقب على أحذق الناس وأبعدهم في التلصص وأخذ ما في بيته وخرج وسد النقب كأنه خاطه فسمي بذلك، ووضع أسسا للعيارين، وكان يقول «ما سرقت جارا وان كان عدوا، ولا كريما، ولا كافأت غادرا بغدره» ومن وصاياه «اضمنوا لي ثلاثا أضمن لكم السلامة، لا تسرقوا الجيران واتقوا الحرم ولا تكونوا أكثر من شريك مناصف، وان كنتم أولى بما في أيديهم لكذبهم وغشهم وتركهم اخراج الزكاة وجحودهم الودائع». وقد تراوحت الحكايات وعبرت من بغداد لمصر للشام، فقد نسب الزيبق لمصر وبغداد في وقت واحد، وهذه الظواهر تبلورت في مصر في القرن الـ19 باسم طائفة الجدعان ثم انتهت عند الفتونة. كتابات الجاحظ عن اللصوص كانت دستورا للعيارين، حيث ميز بين انماطهم وتتبع حكاياتهم، وأبرزها حينما استوقفوا قافلة وسألوا كل تاجر فيها منذ متى وانت تتاجر، فقال من كذا سنة، فقال وهل كنت تخرج الزكاة؟ قال نعم، فسألوه كيف كنت تخرجها.. فتلجلج وعلموا أنه لا يعرف كيف يحسبها، ومروا عليهم ووجدوهم كلهم.. هكذا فكانت لهم! الآن اختفت هذه الظواهر، وحبست في الكتب والدراما والسير، وظل المثل الشعبي يتندر بهم.
مقال صالح الغازي
#من_شباك_الباص
في جريدة القبس الكويتية
عدد الجمعة والسبت ١ _٢ نوفمبر ٢٠١٩
تعليقات
إرسال تعليق