هدى الشوا : رواية «الباص».. بين التغريب والتغييب
مقال الأستاذة هدى الشوا عن رواية الباص
.إن صح وصف الرواية بأنها (ابنة المدينة) في علاقاتِ سكانِها الإنسانية المعقدة، التي تشكِلها التسلسلات الهرمية للرأسمالية المتوحشة، السريعة، الطاحنة لكل من يقف في طريقها، فإن رواية (الباص) لصالح الغازي، تجعل من (الباص)، تلك الوسيلة المواصلاتية، الفضاء المكاني المتحرِك لرصد حركة تداول الرأسمالية الخليجية بنسخة كويتية.
الباص، في سردية الرواية، وسيلة لنقل القوى العاملة من فئة المقيمين في الكويت إلى أماكن الإنتاج، فلا غرابة أن تتخذ الرواية من قلب مدينة الكويت، النابضِ بالأسواقِ التجارية والمالية، مسرحا لأحداثها بين مسارات خطوط النقل العام في محطات المرقاب، والمالية، ودوار الشيراتون.
ي حين يكون بطلها أحمد صابر، ذلك الموظف في شركة اتصالات كبرى (بي يو إس)، والذي يجد نفسه تائها في قاعةِ اجتماعاتٍ ضخمةٍ في أول أيام دوامه، محاطا ببحر من الموظفين في زيٍ موحدٍ، كأنه ذلك الترس في ماكينة الشركات العالمية الضخمة، ومراكز القوة والمال.
يمسك سارد العمل، أحمد صابر، راكب الباص يوميا إلى مكان عمله، بزمامِ مِقْودِ الحكاية، بضمير المتكلم في أغلب فصول الرواية، وهو الذي يرينا، عبْر شباكِ الباص، المدينة بعينِ المغترِب، من منظورِ الآخر.
يتطرق الأدب الكويتي المعاصر، إلى ثيمة (الأنا والآخر) في عدة أعمال أدبية، أذكر منها: (بعيدا إلى هنا) للروائي إسماعيل فهد إسماعيل، ورصد معاناة (كوماري) الخادمة الآسيوية في حياتها لدى عائلة كويتية، أو في رواية (ظل الشمس) لطالب الرفاعي، التي ترصد معاناة المهمشين من منظور عاملِ بناءٍ مصري، أو في (ساق البامبو) لسعود السنعوسي، التي تتناول اغتراب شخصية البطل عيسى / خوسيه بين هويتين؛ الأب الكويتي والأم الفلبينية.
لكننا نجد أن رواية (الباص) ليست معنية بسبر أغوار جدلية (الأنا والآخر) من علاقات يشكِلها نسق المسيطر مقابل نسق المهمش، فشخصية الكويتي (الأنا المسيطرة) بالكاد تحضر في حكاية أحمد صابر، وبالتالي هي مغيبة، كما هم ركاب الباص من فئة المواطنين مغيبون.
الأنا المغترِبة
بل تسعى الرواية، للحفر في تشظِيات (الأنا المغترِبة)، في مواجهة المنظومة المهيمِنة لآلة الترسانة الرأسمالية الصاعدة، المتوحِشة. لذا تمركزت العلاقات الإنسانية في الرواية بين شخصيات من ضفة النسق (المقيم/المغترب) فهم إما من طبقة الموظفين في شركة الاتصالات الكبرى التي يعمل بها أحمد صابر، والتي نجحت -كما يقول أحد الموظفين- في إقناع عامل بنغالي بشراء هاتف (آي فون) بالتقسيط، في إشارة إلى ممارساتِ الشركة في استهداف الربح والتكسب المالي, أو من طبقة الموظفات كالفتاة الفليبينية نورما، التي تنبت علاقة بينه وبينها، وإما هم من ركاب الباص الذين يلتقيهم البطل خلال مشاوير المدينة، ويفرِد السرد مساحة كبيرة لحكاياتهم باختلاف أطيافهم وأجناسهم، عبر فعل (المراقبة).
في فضاء عالم الباص تصبح الشاشة الصغيرة بين أيدي ركاب الباص بوابة لفضاءاتٍ غيرِ متناهِيةٍ من فعل التلصص والتجسس، وتأخذ تغريبة أحمد صابر منحى آخر عندما يخترِق هواتف ركاب الباص -بتقنيات اكتسبها عبر عمله الجديد-وكأنه ينقر، ويلمس، ويمسح مع هؤلاء الأغراب، تفاصيل حيواتهم ومعاملاتِهم المعيشيةِ الدقيقة، وتواصلِهم، فتصبح الشاشة وحيواتهم الافتراضية نسغ الحياة النابض، وبديل الوصل الإنساني الذي يفتقده في غربته.
استحضار الذكريات
يخوض السارد بالمونولوجات الداخلية، وبالتداعيات، وباستحضار ذكريات الطفولة والشباب في مدينته في مصر، المحلة الكبرى، المدينةِ الصناعيةِ الضخمةِ لإنتاج القطن، حيث المصانع الكبيرة والمحالِج، ولكنها أيضا المدينة التي لم توفِرْ له فرصة للعمل، ولفظتْه.
يستذكر أحمد صابر معْلم مدينته، برج الساعة المشهور، الذي يصفه شامخا كالمسلة الفرعونية، والذي يظهر على غلافِ الروايةِ، فهل يمثِل الترسانة المتوحِشة لنظامٍ اقتصاديٍ مهيمنٍ آخر في مصر هذه المرة؟
فالساعة ضابطة للوقتِ ولتنظيمِ ساعات المدرسة والعمل ووردية العمال، وهو ما يذكِرنا بأنموذج (ميشيل فوكو) عن دور البرج (البانوبتيكون) في كتابهِ (المراقبة والمعاقبة)، كآلية للضبط والسلطة، التي تراقِب ولا تراقب.
تمثِل إذن حكاية تغريبةِ أحمد صابر وشخوص روايةِ الباص من طبقة المغتربين في مواجهة هيمنة أنظمة رأسمالية ضخمة يشكِلها عالم الشركات الكبرى، ومكوِناتها من الموارد البشرية (القوى العاملة) من المقيمين المغتربين في مدينة الكويت، وهم ركاب الباص الجارف، ومجاميعها البشرية، الذين ينقلهم الباص بينما يغيب المواطنون، فهم يعيشون في عالمٍ موازٍ لعالم النقل العام.
التغريب والتغييب
وما بين التغريب والتغييب، تحفِز الرواية سؤالا: ألا تعلِمنا الحياة، ويعلِمنا التاريخ، أن هناك دائما محاولاتٍ لاختراقِ الأنظمة المهيمنة الكبرى، من قِبل قوى المجتمع المدني؟ محاولاتٍ تسعى لإحداثِ الشروخِ في ترسانة الهيمنة، لتفكيك بنى نظن أنها غير قابلة للاختراق، لإحداث التغيير؟
فإن كانت الرواية ابنة المدينة، فباص صالح الغازي ينتقل بركابِه وأحلامِهم في جنباتِ المدينة موزِعا قصصا وحكاياتٍ، عن الغربة والحنين والذكريات.. وقد يحمِل دعوة أيضا لتحقيق العدالة والمساواة والمشاركة.
نتمنى لباص صالح الغازي رحلات آمنة. والوصول بالسلامة.
(هدى الشوا)
٠٠٠٠٠٠٠
رابط المقال كامل
https://www.alqabas.com/article/5925092
#رواية_الباص
#ذات_السلاسل
#دار_ذات_السلاسل
#هدى_الشوا
#thatalsalasil
#novel
#the_Bus
#رواية
#الباص
#صالح_الغازي
عرض أقل
تعليقات
إرسال تعليق