مقال صالح الغازي* جدوى وجود المحرر الأدبي في الابداع العربي المعاصر
تناول الاستثمار الثقافي في الابداع العربي بنظرة واقعية هو أمر يجب النظر إليه ودراسته بجدية، سأبحث هنا في موضوع طلب وجود محرر أدبي للأعمال الابداعية.
دور المحرر أساسي في العمل الصحافي والتحرير اللاحق للترجمة كالتالي:
المحرر الصحافي: يعتمد عليه في صياغة الخبر وضبط التحليل الصحافي في سياقه وتحرير البيانات وصياغة أعمال المراسل الصحافي.
دوره تقليل جفاف الأخبار ومباشرتها وحدتها ويلتصق عمله بصحيفة أو مجلة او موقع الكتروني أو نشرات الاخبار، وهناك اساليب معروفة لتحويل النص الاخباري الجاف لقصة اخبارية ذات جاذبية.
محرر الترجمة: دوره أساسي بعد ترجمة النص، وفق النوع الأدبي وأصوله لأن المترجم ليس بالضرورة يكون شاعرا أو روائيا لذا تحتاج إلى متخصص مبدع لذلك نجد أن أفضل المترجمين للنصوص الإبداعية هم من يملكون قدرات الابداع الأدبي وفي الأصل هم روائيون أو شعراء
المعد أو الباحث
- الباحث أو المعد الذي يقوم بتجميع آراء مثلا حول موضوع واحد وينشرها في كتاب، يكون دوره بحثيا أو تجميعيا وينسب له كمعد أو كباحث.
لكن السؤال الآن من الذي يساعد المؤلف بعد كتابته النص للخروج بصيغة أفضل؟
أولاً: مدقق اللغة
يراجع دقة القواعد وصحتها وتشكيل الكلمات، وعلامات الترقيم.
ثانيا: الناقد
يتذوق أو يحلل النص، قد يرى ضرورة وجود تعديلات درامية أو أسلوبية، لتصل بالنص لاكتمال معين.
قد يكون ناقدا متخصصا يهدف لتحقيق معايير مدرسة نقدية وابداعية بعينها أو الناشر الذي يهدف لتلبية رغبات القراء أو طلبات الموزع أو محاكاة نموذج بعينه.
* يحتاج المؤلف - بشكل أساسي- مدقق اللغة، أما رأي الناقد فهو يخص المؤلف وفق وعيه وقراره وهو الوحيد الذي يملك تعديل النص، فالكتابة هي الأسلوب والموهبة والخبرة الحياتية والمعرفية للشخص.
المؤلف الأصلي للنص ولو تجاور معه مؤلف آخر يكون مؤلفا مشاركا.
أصحاب المصلحة
من المهم الان استعراض أصحاب المصلحة (المستفيدين) من عملية انتاج كتاب ابداعي
-1 المؤلف: هو صاحب العمل وله حقوق الملكية الفكرية، هو أساس صناعة النشر. لكل مؤلف وعيه الأيديولوجي وأسلوبه وخبرته في الكتابة والحياة، موهبة الكتابة والتأليف هي رزق من الله مثل الأولاد والمال..
(الكاتب /المبدع /المؤلف) القوانين تناولت في ذكر حقوق الملكية (المؤلف)، وغاية التأليف هي الابداع. والفعل هو الكتابة.
-2 الناشر: يدير العملية سواء قبل الانتاج أو بعده، فهو وكيل المؤلف أو ممثل المؤلف في كامل المعاملات، وقد يكون الناشر حكوميا يقوم بدور ثقافي وغالبا له منافذ محدودة غير هادف للربح أو ناشرا تجاريا أو استثماريا يهدف للربح، ولكل مؤسسة أهدافها الاستراتيجية سواء كانت هذه المؤسسة (ناشرا أو موزعا).
-3 الموزع: يقوم بعرض الكتاب للقارئ قد يكون في محال تجارية أو منافذ بيع أو على منصة الكترونية توصل للبيوت أو تبيع نسخا رقمية كمنتج الكتروني أو صوتي.
-4 القارئ: هو المستهدف النهائي. قد يكون باحثا أو طالبا أو قارئا عاديا يبحث عن التواصل والمتعة المعرفية ومشاركة الحالة، وقد يصنف وفق فئة عمرية أو وفق نوعية الصنف الإبداعي مثل محبي كتب الشعر أو الرواية أو الحكايات أو القصة.
-5 بالإضافة إلى المتعاونين، مدقق لغة، الناقد، محرر الصفحة الثقافية والقطاعات المستفيدة مثل الاعلام والتعليم والثقافة، النشر، التجارة.
محرك الفكرة
من الذي يطلب وجود محرر أدبي غير المؤلف؟ وما السبب في هذه الفكرة؟ ما المحرك لهذه الفكرة؟
بالتأكيد الأمر يتعلق بالمستفيدين وكل واحد مما ذكرتهم لديه سبب في هذا الطلب، كل المستفيدين أو أصحاب المصلحة مرشحون أن يكونوا هم أصحاب الطلب أو المؤثرين على طلب محرر أدبي.
مثلا الموزع، يعتمد على طلبات القارئ ويظل يطلب من الناشر والمؤلف النوعية الأكثر ربحا.
والقارئ قد تتوجه ميوله حسب الدولة والتوقيت والظرف السياسي والميل العام على وسائل التواصل الاجتماعي.
وكل نوع أدبي له طبيعته وأصول كتابته، التي قد تكون في مواجهة رغبات القارئ، لذلك يفرض القارئ نموذجا أو وصفة للنوع الأدبي مثلا، بعض القراء يفضلون الرواية الضخمة وبعض القراء يفضلون رواية الرعب، وبعض القراء لا يفضلون الشعر، وقد تكون (رغبة الناشر القصدية التجارية) في انتاج كتب ابداعية على أنماط ووصفات محددة.
واعتقد أن ذلك يأخذنا خارج فكرة الابداع، وهناك احتمالات كثيرة قد تكون رغبة تجارية أو تسويقية فقط أذكر منها مثلا:
- هناك نظرة شائعة أن تأليف كتاب أو كتابة مقال هو أمر يزيد من الوجاهة ليكمل الشخص صورة ذهنية يتمناها أحد الوجهاء، وبالتالي يلجأ لناشر أو حتى يفعلها بنفسه ولأن الكتابة موهبة وفن، فمثلاً قد يكون عند أحدهم فكرة أو حكاية لكن لا يملك الموهبة والأسلوب والخبرة الحياتية والمعرفية التي يخرجها بها.
مواصفات المحرر الأدبي
السؤال الذي يفرض نفسه: ما مواصفات المحرر الأدبي المطلوب؟
شخص مبدع لديه مهارات إبداعية يصحح مسارات الأسلوب والدراما في النص أو يصيغ فكرة وتنسب كليا لشخص آخر أو يكتب كتابا وينسب لشخص آخر تحت مسمى لطيف وذكي!
كل هذه الامكانيات هي عينها قدرات المؤلف. والعجيب هنا أنه قد يسعى المؤلف نفسه بسبب الضغوط أو الحاجة المادية إلى القيام بهذا الدور لمصلحة شخص آخر!
لنجد احتمالا جديدا يلزمنا فيه الاجابة عن السؤال هل المحرر دوره يسد عجز الكاتب المزعوم؟
قد يرى مؤثر اجتماعي أو شخص مشهور ليس لديه قدرات ابداعية على الكتابة.. فيطلب وجود غطاء لذلك وهو المحرر الأدبي.
يظل الفارق كبير بين الكاتب الذي يحتاج من يساعده والمؤلف المبدع صاحب القدرات الكاملة، هو نفسه الفارق بين المؤلف وغير المؤلف.
هل نتخيل مثلا أن نجيب محفوظ أو يوسف ادريس أو خيري شلبي أو إبراهيم اصلان يحتاجون محررا أدبيا؟
ما المطلوب من المؤلف؟
ماذا يفعل المؤلف لو عنده نقص في القدرة الإبداعية أو اللغوية وفي صياغة النص لتحقيق تعديلات درامية وأسلوبية؟
يدرس أكثر ويقرأ أكثر ويتدرب على الكتابة، أو يلجأ إلى مؤلف مشارك لترقية وتحسين النص، يتسم بالوعي الابداعي، والخبرة كافية ابداعية وافتراض رؤية لتحسين النص واتجاه الدراما بالشكل الجذاب الذي يرضي شريحة القراء المستهدفة، واعادة افتراض مواطن للمفارقة والدهشة والجاذبية، ويكون له نفس حقوق الملكية الفكرية المعنوية والمادية. أو إذا لم يمتلك الموهبة أن يبتعد عن الكتابة ويلتفت لمزايا أخرى لديه.
تفرد الإبداع
الأدب والكتابة من الممتلكات المميزة التي أبدعها العقل البشري، والآن في عصر التحول الرقمي، الاستثمار الثقافي أهم نوعيات الاستثمار، هي ثروة لا يجب الاستهانة بها، كل كلمة وكل أسلوب وراءهما ثقافة ومعرفة وفكر ودراسة وموهبة تخص صاحبها، لذا هي نتاج خاص لكل فرد. الأفكار والحكايات معروفة وتملأ الدنيا وتعاد وتكرر من بداية الخلق حتى الآن لكن الذي يستطيع صياغتها وتقديم منتج خاص وفريد هو المبدع، صاحب الأسلوب والخبرة والرؤية والموهبة، والكتابة الأدبية كمصنفات تشمل النصوص بأنواعها كالقصة والرواية والحكاية والشعر وتتسع لتشمل المقال الأدبي والرسائل الأدبية والسيناريو والحوارات وكل نص فيه ابداع وفكر.
خصوصية اللغة العربية في الإبداع
هي لغة متفردة في طبيعتها الإبداعية، حيث اللفظ مشبع بالمجاز والمعاني والمرادفات دقيقة وتجربة صاحبها مخزونة بداخل كل مفردة، لذلك الأسلوب وثقافة الكاتب وفكره وموهبته هي عماد النص (لاحظ أن القرآن الكريم المعجزة الإلهية) مكتوب بالعربية مما يدل على خصوصيتها في التعبير. لذلك الكتابة والابداع والتأليف والصياغة والتحرير ليست أمورا عابرة ولا هامشية، ويجب احترام الكتابة والسعي لاستثمارها كواجب.
الاستثمار الثقافي الغربي
هناك منظومة استثمار ثقافي وابداعي غربي واضحة نتجت عنها شركات كبيرة مثل أمازون وغوغل ودور نشر، وكتب ومؤلفين الأعلى مبيعا في العالم بملايين النسخ رغم أنه قد يختلف البعض مع وجود نماذج مكررة كثيرة، لكنها انتجت استثمارا مؤثرا شعبيا له عيوبه وله مساهماته.
وهذه القدرة الاستثمارية على تواجد مجموعات عمل وفرق مطورين ومفكرين ومسوقين مختصين.
الناشر الغربي يحترم ويعتني اعتناء كبيرا بالمستفيدين أصحاب المصلحة، حقوق وواجبات المهنيين، حقوق الملكية الفكرية واضحة، التغطيات التأمينية هناك مهنة (كاتب) لها شأن كبير وهي وظيفة لها قيمة، ولها وكالات تروج لهم وترعى مصالحهم وتنظم مشاركاتهم في الفعاليات. وبالتأكيد يوجد المحرر الأدبي وما يعرف بـ (الكاتب الخفي) The Ghost Writer قد يكون خفيا عن القارئ إنما مهنيا وماديا له تقدير أعلى حتى من الناشر وقد عرفنا تجارب كثيرة أن «الكاتب الخفي»، أصبح ممتلكا لحصة أكبر من حصة الناشر الأصلي للشركة، وهناك من امتلك دار النشر التي يحرر فيها، فهو صاحب الخبرة في المحتوى الإبداعي وإدارة النشر معا وهي خبرات نادرة مؤثرة.
المؤلف وسوق النشر العربي
نعم.. لدينا سوق نشر عربي مع التشديد على دقة الوصف، يعاني من أزمات تعصف به، ولأن موضوعنا هو المؤلف وهو أساس موضوع التحرير الأدبي.
المؤلف المبدع هو صانع الحضارة وهو صاحب الرؤية المستقبلية وليس بالضرورة أن يغير فورا لكن قد تكون شرارة البدء من عنده، فقد يلهمنا كاتب بفكرة أو رؤية تجعلنا نتغير ونغير وننهض ونرقى قد نكتشفها الآن أو بعد عشرات السنين وقد يكون هو ثروتنا الوحيدة الدائمة وهو العنصر الأهم في الاستثمار الثقافي والابداعي.
مشكلات وصعوبات تواجه المؤلف العربي
وأعرضها هنا بشكل ايجابي بالمفترض توفيره للمؤلف العربي
¶ التمكين من التكسب من الكتابة، أي التعويض بمبلغ مادي عادل نظير كتابته سواء من مجلة أو جريدة أو كتاب يوفر له كمؤلف تأمينا صحيا ورعاية صحية.
¶ توفير معاش تقاعدي.
¶ الحصول على الحق الأدبي المعنوي بمعنى نشر على الكتاب اسم مؤلفه أو معده أو المؤلف المشارك.
¶ الحصول على مستحقاته بشكل دوري مما نشر له في الصحف والمجلات ودور النشر وحقوق الملكية الفكرية وحق الأداء العلني.
¶ الحد من تسرب الموهوبين والمبدعين برعاية حقوقهم ومصالحهم.
¶ الاعانة على ممارسة مهنة التأليف كمهنة مستقلة، لأن أغلب المبدعين يعملون عملا آخر للتكسب منه.
¶ تمكين المؤلف من حضور المؤتمرات ومعارض الكتب والتحدث للجمهور ومناقشته.
¶ تمكين حركة النقد الأدبي اللاحقة للنشر للمساهمة في ضبط الرأي العام وتقديم المبدع الحقيقي للحد من سيطرة «المديوكير»، قد يكون نشاط الحركة النقدية ومواكبتها يحدان من تغليب النقد الشعبوي الذي لا يرى سوى مؤشرات التقييم الالكترونية (عدد اللايكات أو عدد المشاهدات أو عدد المتابعين)..
¶ الاحتفاء النقدي الأكاديمي والدراسة الجادة المنصفة للمبدعين.
¶ تمكين الوكالات الأدبية والتسويق للمؤلف المبدع.
¶ الاعلام الثقافي مهم بإلقاء الضوء على الكاتب والكتاب والمنجز الحقيقي.
هذه أمور يجب أن تتبناها الحكومات والاتحادات الأهلية، وتدرج ضمن خططهم الاستراتيجية لأن التمويل الاستثماري في الثقافة لن ينجح في ظل سوق يعاني فيه المؤلف ولن يسهم في حل ما سبق إنما هذه أدوار اتحادات الكتاب في كل بلد عربي، واتحادات الناشرين بالإضافة للمؤسسات التعليمية ووزارات الثقافة والتجارة والصناعة.
وأخيرا أقول أن اللغة العربية جعلت مصير هذه الصناعة مصيرا مشتركا رغما عن الجميع، فالمبدعون العرب ومشاكلهم وتأثيرهم ممتد بلا حدود جغرافية، ويقع على الجميع عاتق التفريق بين الحقيقي والمزيف والمبدع والتاجر.
الإبداع ومسألة النشر
هناك عدد كبير من الكتاب المتميزين عربيا وألمس فيهم موهبة لا غبار عليها والجميع عنده أزمة في نشر كتبهم.
الابداع المتفرد متمرد، على مفهوم تقليد نموذج وتلبية احتياجات السوق، ولغتنا العربية كاشفة.
أرى أن يقتصر دور الناشر العربي على ادارة النشر من خلال متخصص واع للملاحظات والمشاهدات والمؤشرات التي تراعي السوق (القارئ والموزع)، وفي نفس الوقت مراعاة طبيعة الابداع..
ليقتصر دور الناشر على التقييم والاختيار والنصح والكشف والنقد وتوجيه المبدع، فاختيار المناسب من الابداع المكتوب بما يناسبه من الموضوعات الطول والقصر ووحدة الموضوع سواء عن طريق التصريح بالمواصفات علنيا أو طرح مسابقة / ثم التوصية النقدية بما يناسب او باتجاه سير الحدث أو اقتراحات درامية
لو توقفنا بالدقة عند أي صنف ابداعي سنجد تحليلات متباينة، ولن نجد الوصفة السحرية التي يجب أن يقلدها الجميع. في النهاية المبدع الحقيقي الذي يكتب بكل عقله ووجدانه والممتلك لأدواته حتما يفرض نفسه، ويضيف لقرائه وعليه أن يختار الناشر المناسب والمكان المناسب لإصدار كتابه وابداعه.
عموما الاعتبار بالقارئ لا يعني الانقياد لاستطلاعات رأي القراء والكتابة بناء على ذلك، أو الانقياد للموزع أو الناشر في تقديم كتب بناء على طلبهم، لأن الابداع متطور ومتجدد وتقليد نمط أو إعادة انتاج أسلوب، سيخرج القارئ من دائرة احترامه لمؤلفه عندما يكتشف أنه لا يقدم جديدا، وسيخرج الكاتب من دائرة الابداع لأنه دخل في دائرة تقليد.
تحية لكل المؤسسات التي تقوم بدورها الثقافي رغم التحديات لدعم المؤلف، تحية لكل مبدع حقيقي
* كاتب وشاعر متخصص في إدارة النشر والإدارة الثقافية
تعليقات
إرسال تعليق